عودة المسلمين لميقات رب العالمين

حق الله الخالص في التشريع و كفاية القرآن

بسم الله الرحمن الرحيمتوطئة: هل القرآن وحده كافٍ لقوم في جزيرة منعزلة لا يعرفون شيئاً عن التاريخ إلا القرآن؟أخي من يقرأ هذه الرسالة، اعلم قبل أن تقرأها أني لا أريدها أن تكون مجرد كلمات تُضاف إلى أطنان كتب التراث وبحوثنا المتراكمة على الرفوف عبر قرون القرون. لستُ في هذا الموضع مقرراً عليكم، ولا متعالياً بعلمٍ دونكم، بل هي دعوة صادقة لأن نُعمِلَ جميعاً عقولنا، وأن ندربها على أن تلامس عظمة كلام الله دون وسيط ولا شريك.
أريد أن نتصور أنفسنا مجموعة من الأعراب الأقحاح، أتينا من عمق بيداء جزيرة العرب، تائهين في فيافٍ لا ساحل لها. لا نعرف عن تاريخكم شيئاً ولا عن واقعكم، ولا ندري عن العالم أمراً إلا لغتنا العربية الصرفة، وكون الله الواسع الفسيح، وعقولنا الواعية. وفي تيهنا هذا، وجدنا بيتاً حوله مذبحة، فهرعنا لنجد مشهداً يهتز له قلب كل ذي مروءة: قطاع طرق يحاصرون بيت شيخٍ عجوز، وزوجهُ تصرخ وتستغيث: "لا تقتلوه!".فهجمنا عليهم بما فينا من مروءة فطرية حتى فرقناهم، ففروا إلى الصحراء. ودخلنا البيت، لنرى رجلاً طاعناً في السن، يناهز الثمانين، دمه يسيل على كتاب جليل بين يديه، وزوجته نائلة تحتضنه والدماء تغرقها. كان على أول صفحة من ذلك الكتاب: "عن حفص عن عاصم عن السلمي عن عثمان بن عفان عن محمد رسول الله"، ثم ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 1-2]. ثم وجدنا في الكتاب 114 سورة، قرآناً عجباً.لنتخيل أن العالم آنذاك كان خالياً، فلما سألنا عن أهل تلك المدينة قيل لنا: "إنهم خرجوا للحج الأكبر، ولذلك استغل قطاع الطرق خلو المدينة من أهلها فقتلوا شيخها". فانطلقنا نقطع الفيافي مسرعين إلى القوم في طريقهم للرجوع من الحج لنلقاهم ونسألهم ما هذا الكتاب المبقع بالدماء، فوجدنا أن قطاع الطرق قد سبقونا إليهم في موضع يقال له "الخريبة" وقتلوهم جميعاً. فلملمنا أجسادهم بالآلاف، وقيل لنا أنهم قد عقروا جمل زوجة محمد رسول الله وساقوها أسيرة.ثم قال لنا قائل إن طائفة من القراء اعتزلت في موطن يقال له "النهروان". فقلنا لم يبقى إلا هم فهم من تلقوا عن الرسول مباشرة أو عن الرعيل الأول فهرعنا إليهم، ولكن وا أسفاه! قد سبقنا قطاع الطرق إليهم أيضاً، فوجدناهم أربعة آلاف قارئ قد أُبيدوا عن بكرة أبيهم، وقائد ثوارمن ذبح الرجل العجوز هو قائد جيش نحر الجمل واهله وهو ذاته قائد جيش ذبح اهل النهروان وهم ساجدون قلنا لهم ما اسم رئيس قطاع الطرق هذا ما أشقاه ...قيل ان اسمه مالك ! سألنا أي مالك هذا أهو خازن جهنم قالوا لا بل مالك
بن الاشتر . ... ووجدنا أرض الجزيرة قد تحولت إلى بحر من الدماء بين قطاع طرق وأولياء دم. فهربنا لننجو بأنفسنا، ومعنا هذا الكتاب المبقع بالدماء، عن رسول اسمه محمد.
فهربنا إلى كهف بعيد ودخلناه لننام فيه، فنمنا 1400 سنة. واستيقظنا لنخرج مرة أخرى، فهالنا ما وجدنا: ناطحات سحاب، وأرض جزيرة العرب بها قواعد عسكرية مهيبة لرجال أعاجم من بني الأصفر. ما هذا؟ إنه احتلال فضائي!فهربنا إلى جزيرة منعزلة في عرض البحر، وقلنا: ما لنا لا نقرأ القرآن مباشرة؟ لقد نزل بلغتنا ونحن عرب. فأسر قلوبنا هذا القرآن، وأقسمنا أن نتبعه ونقيمه.والسؤال هنا: هل القرآن وحده كافٍ لهدايتنا؟ كافٍ بلغتنا العربية التي نألفها وندرك معانيها ونداولها بألفاظها أم لا؟إن الله تعالى يقول: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء: 46].فلنكن كمثل ذلك النفر من الجن الذين وصفهم الله تعالى في كتابه، حين سمعوا القرآن فآمنوا به وحده:﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الجن: 1-5].نعم، إنه لمن الخطأ والسذاجة أن نظن أن البشر لن يكذبوا على الله ونثق في كل ما قالوا. إن حتى الجن لم يؤمنوا إلا لما وجدوا القرآن يهدي إلى الرشد، ويعرض القضايا في قمة العدل والانضباط والمثالية والعقلانية والتفرد. إنه هدي ورشد في كل كلمة. كما وجدوا ظواهر كونية كبرى تؤكد أنه حدث إنزال سمائي استثنائي: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾ [الجن: 8]. لقد أدركوا أن هناك أمراً عظيماً قد حدث، فلما سمعوا الهدى آمنوا به: ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾ [الجن: 13].أيكون مؤمنو الجن أعقل من ضالين الإنس؟ والله إنه لشيء عجاب! وهم أبناء آدم الذي علمه الله بنفسه، وأنشأ له الوعي، وحباه باللغة والتصور، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة. ورغم ذلك، لم يفهم كثير منهم تلك الحقيقة: أن القرآن وحده كافٍ للهداية.
وأسألكم بالله عليكم، لو افترضنا أننا في جزيرة خالية ليس معنا إلا القرآن ولغتنا العربية التي بها وعينا العالم، هل القرآن كافٍ لهدايتنا أم لا؟ إن قلتم لا، فاعلموا أننا نهدم أصل القرآن نفسه ونحادد الله جل وعلا، بل إننا لننقض كلماته الصريحة.
لقد شهد الله لكتابه بالكمال والتفصيل:﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: 89].﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس: 2]. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر: 28].فإذا كان الله قد قال عن التوراة: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ [الأنعام: 154]، وقال: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 145]، فما بالكم بالقرآن العظيم الذي هيمن على ما قبله؟
لقد شهد الله لكتابه بالكفاية والبيان:﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 51].﴿وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ ۚ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: 155-157].
فهل آيات الله غامضات عويصات، أم هي آيات بينات مبينات؟﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ [البقرة: 99].
إن الله أنزل إلينا "الذكر" ليبين للناس ما نزل إليهم، والذكر هو الفهم الصحيح والمعنى القويم، وقد تعهد الله بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. إن حفظ الذكر ليس مجرد حفظٍ للحروف، بل هو حفظ للمعنى الذي لا يأتيه الباطل، فآيات القرآن مثاني يفسر بعضها بعضاً ويصدق بعضها بعضاً، ويستعصي على محرفي الكلم عن مواضعه.
إن الله ذم قوماً لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، ثم توعد الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، فقال: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]. أما أهل الإيمان الحقيقي، فإن القرآن في صدورهم آيات بينات لا تحتاج إلى وسيط أو وصي.﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 49].
إنها دعوة لأن نتمرس على التفكير معاً، وأن ندرب عقولنا ونفوسنا على العبودية الخالصة لله. فالعبادة ليست مجرد حركات قشرية، بل هي مسألة تبدأ من تدريب العقل على توحيد الخضوع والتلقي من كلام الله مباشرة. فلننخلع جميعاً عن قيودنا المذهبية والعرقية والعصبية، وعن كل دين بُني على أحبار ورجال.

سجل المراجعات