مقدمة منهج البحث: السير في الأرض بنور الوحي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
منهج البحث: السير في الأرض بنور الوحي
إن قصة موسى عليه السلام ومواجهته لفرعون، وخروج بني إسرائيل من مصر، ليست مجرد حدث تاريخي عابر، بل هي إحدى القصص التأسيسية الكبرى في ذاكرة البشرية. إنها الملحمة التي شكلت وعي ثلاث من كبرى ديانات العالم، ورسمت معالم الصراع الأبدي بين الإيمان والطغيان، بين الحق والباطل، بين المستضعفين والمستكبرين. لقد تناقلتها الأجيال، وتلتها الألسن في المعابد والكنائس والمساجد، وألهمت الملايين على مر العصور.
ولكن في عصرنا هذا، الذي يقدس المادة ويجعل من الأثر المحسوس معيار الحقيقة الأوحد، برز تحدٍ جديد. يقف علم الآثار الحديث (الأركيولوجيا)، بتاريخه المكتوب على الحجارة والبرديات، ليعلن ببرود "علمي" أن هذه القصة العظيمة قد لا تكون سوى أسطورة. فحجة علماء المصريات، في معظمهم، تبدو قوية ومباشرة: "لا يوجد دليل أثري مادي واحد ومباشر يثبت قصة الخروج". فلا نقش فرعوني يذكر اسم موسى، ولا بردية تسجل الضربات العشر، ولا أثر لجيش غارق في قاع البحر الأحمر.
أمام هذا "الصمت المطبق للحجارة"، يقع الكثيرون في حيرة شديدة. أما أهل الإيمان، فيشعرون بصدع مؤلم بين ما يقرؤونه في كتبهم المقدسة وما يقدمه "العلم" كحقيقة. وأما أهل الإنكار، فيجدون في هذا الصمت ذريعة للسخرية من "أساطير الأولين" واعتبارها مجرد قصص خيالية لا أصل لها.
وهنا، يبرز السؤال الذي يقع في قلب هذا الكتاب: هل الحجارة صامتة حقًا، أم أننا لا نحسن الإنصات إليها؟ وهل علم الآثار هو الحكم النهائي على صدق الوحي، أم أنه مجرد أداة قاصرة تحتاج إلى نور يوجهها لتقرأ الحقيقة الكامنة بين السطور وفي فجوات التاريخ؟
إن هذا الكتاب ليس مجرد دفاع عن قصة دينية، بل هو دعوة لتأسيس منهج جديد في البحث، منهج لا يرى تعارضًا بين العلم والإيمان، بل يرى تكاملاً ضروريًا بينهما. إنه منهج يستجيب للأمر الإلهي الصريح في القرآن الكريم: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
. هذا ليس أمرًا بالسياحة الروحية، بل هو تكليف إلهي بإقامة علم بحث وتحقيق، علم يسير في الأرض، وينظر في الآثار، ويحلل التاريخ، لا بعيون المادية المنكرة، بل بنور الوحي الذي يكشف الغاية والمعنى.
إن منهجنا الذي سنعرضه يقوم على ركنين أساسيين:
الركن الأول: القرآن "المهيمن" كإطار للحقيقة
نحن لا ننطلق من فراغ. إن نقطة بدايتنا ومرجعيتنا العليا هي القرآن الكريم، الكتاب الذي يصف نفسه بأنه مُهَيْمِنًا
على ما سبقه من الكتب. والمهيمن هو الحاكم والشاهد والرقيب. فالقرآن ليس كتابًا في علم الآثار، ولكنه كتاب الحقيقة الذي يقدم لنا الإطار السردي الصحيح للأحداث الكبرى في تاريخ البشرية. إنه يعطينا "الخريطة" التي ترشدنا، ويخبرنا ماذا نبحث عنه، ولماذا هو مهم. إنه يقدم لنا المنطق الأخلاقي والروحي للأحداث، وهو ما لا تستطيع أي أداة مادية أن تقدمه.
الركن الثاني: "علم آثار العاقبة" كأداة للتحقيق
إن الخطأ القاتل للمنهج المادي هو أنه يبحث عن "الاعتراف المباشر" من الطاغية. وهذا خطأ منهجي فادح، فالطاغية لا يؤرخ لهزيمته أبدًا. لذلك، فإن منهجنا لا يبحث عن "آثار الحدث"، بل يبحث عن "آثار العاقبة". نحن لا نتوقع أن نجد نقشًا يقول "لقد غرقتُ وجيشي"، بل نبحث عن الآثار الكارثية المترتبة على هذا الغرق. إننا نتعامل مع التاريخ كما يتعامل المحقق الجنائي مع مسرح الجريمة: نبحث عن الآثار الصامتة، عن الفراغ الذي تركه الغائب، عن التناقض في شهادة الجاني، عن البصمة التي لم يستطع إخفاءها.
هذا الكتاب هو رحلة في تطبيق هذا المنهج. سنسير معًا في الأرض، وننظر في:
- الانهيار الجيوستراتيجي المفاجئ لدولة كانت في أوج قوتها.
- لوحة مرنبتاح و ذكر بني اسرائيل تؤكد على تيه بني اسرائيل بعد الخروج و ان مرنبتاح لم يجدهم و ظنه انهم هلكوا و العجيب تتبعه لأخبارهم كقبيلة دون عن كل شعوب البحر يدل هوسه بالبحث عن أخبارهم يدل على سابق علاقة بهم.
- الصمت المريب في سجلات المؤسسة الدينية بعد مواجهة كبرى.
- البصمات المادية الدقيقة على جسد الطاغية المحفوظ.
سوف نرى كيف أن الألغاز التي حيرت علم الآثار التقليدي، مثل لغز الملكة نفرتاري ووريثها، تُحل بآية واحدة من كتاب الله. وسنرى كيف أن "صمت الحجارة" ليس صمتًا، بل هو صرخة مدوية تشهد بصدق الوحي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إنها دعوة لإعادة بناء العلاقة بين النص والواقع، بين الوحي والعلم، لنثبت أن الإيمان بالله وكتبه لا يتطلب إغماض العينين عن حقائق العلم، بل يتطلب فتح البصيرة لرؤية آثار قدرة الله وعدله في كل ذرة من هذا الكون، وفي كل سطر من سطور التاريخ.