في حكم الحيض: من ظلمات الموروث إلى نور القرآن
أيها القارئ الكريم، إن هذا الفصل ليس مجرد عرضٍ لحكم فقهي، بل هو دعوة لتحرير العقل والعودة إلى معين الوحي الصافي، ونقدٌ لذلك الفقه الذي يتعامل مع آيات الله وكأنه لا يسمع ولا يرى، فيعكس مراد الله تعالى ويفعل نقيض ما أُمر به تمامًا؛ كمن يُقال له لا تذهب يمينًا فيذهب يمينًا، ولا تذهب يسارًا فيذهب يسارًا.
سنُركز في هذا الفصل تركيزًا جادًا على تدبر آية المحيض: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ...﴾، وسنتناول الإعجاز العلمي والطبي في كون فترة المحيض "أذى" يوجب الاعتزال في الجماع، حمايةً للطرفين من الأضرار، حيث تكثر في تلك الفترة الميكروبات والآلام.
سنُبرز كيف أن الله لم يقل "هو نجس"، بل قال "هو أذى"، وهو فرق شاسع. وسندقق في المعنى اللغوي بين "اعتزلوا الحائض" التي لم تُقل، وبين "اعتزلوا النساء في المحيض" التي قيلت، لنرى كيف أن حكم الآية مخصص وموضعي. وسنتبحر في معاني "لا تقربوهنّ"، و"يطهرن"، و"يتطهرن"، لنثبت أنه لو كان الضمير "هنّ" عائدًا على كل الجسد، لَلَزِمَ أن يعود عليه في "القرب" أيضًا، ولأصبح مجرد الاقتراب من المرأة الحائض محرمًا، وهو ما لا يستقيم لغةً ولا فهمًا ولا واقعًا من سياق الآية، لأن الكلام كله منصبٌّ على محلٍ محددٍ بحرف الجر "في" الذي يدل على تخصيص زماني ومكاني، وليس على كل الجسد قطعًا.
إن دقة اللفظ القرآني واضحة، وكلمة "الطهارة" ليست هي كلمة "نواقض الوضوء". لذا، يجب أن نتعمق في المفهوم الفقهي الباطل ابتداءً لمعنى "الطهارة". إن أفضل ما في القرآن هو تحديده الدقيق للمصطلحات، لأن مشكلة الموروث وبلاءه ليسا في الأحكام فقط، فالأحكام ما هي إلا نتائج لفهم خاطئ وتصورات خاطئة، والتصورات الخاطئة تبدأ بتعريفات مغلوطة للألفاظ والمعاني، تعريفات ما أنزل الله بها من سلطان.
تحديد المصطلحات: العودة إلى القاموس القرآني
تعالوا لنبحر في القرآن ونفرق بين عدة ألفاظ محورية: (نجس - طهر - أذى - جنابة - وضوء - غسل - تطهر).
أولًا: "النجس".. صفة الشرك لا المادة
يجب أن نضع النقاط على الحروف: لا يوجد ذكر لمفهوم "النجاسة" في القرآن بمعناه الفقهي المبطل للعبادات. هذه فكرة تسربت من ثقافات أخرى، وهي في أصلها يهودية. إن العبادات شعائر توقيفية صرفة، نتعلمها بالتلقي العملي من أمر الله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، ومن أمره بإقامة الوجه عند كل مسجد. أما شروط الصلاة من هيئة ووقت وأركان، فهي توقيفية.
لذا، يجب أن نفصل بين شروط الدخول في الصلاة (ومنها الطهارة المعنوية) وبين التطهر العام من الأذى. لم يُذكر لفظ "النجس" قط إلا على الشرك والمشركين، ولم يُطلق كصفة على موجودات مادية.
الدليل القاطع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا...﴾ [التوبة: 28].
هذه هي الآية الوحيدة. فالنجاسة هنا معنوية روحية، وليست مادية.
ثانيًا: "الرِّجْز".. اضطراب النفس لا وثن الحجر
لو تعمقنا في كلمة "الرجز"، سنفهم مفهومًا عميقًا. إن التزام الطُّهر صراطٌ مستقيم بين نقيضين: إما إنسان منغمس في الأذى وما يضره، أو إنسان موسوس مضطرب. والأمر ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ ليس معناه هجر صنم في الجاهلية كما ذهب بعض المفسرين، الذين كلما استعصى عليهم فهم لفظة، أحالوها إلى معنى غامض في تاريخ غابر، وكأننا نقرأ كتاب أساطير.
بالرجوع لاستخدام القرآن، نجد أن الرجز يدل على حالة نفسية سيئة وخطيرة من الاضطراب؛ إنه سقوط النفس البشرية في دوامة من اللوم والعذاب والوساوس.
• هو العذاب الذي يقع على الأقوام الظالمة فيصيبهم بالهلع والاضطراب: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾.
• هو ما يذهب به ماء السماء عن المؤمنين: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾.
• هو وصف الله للخمر والميسر. لماذا؟ لأن شارب الخمر والمقامر يقعان في تلك الحالة النفسية المهزوزة، المضطربة، التي تغرق في أفكار تأنيبية مظلمة. انظر في وجه من وقع عليه رجز الخسارة، يسودّ وجهه ويقع في حالة اضطراب واختلال.
إن الرجز هو حالة نفسية وسواسية توقع الإنسان في بئر مظلمة من الهلع لا يستطيع الخروج منها. اسأل مريض الوسواس القهري، سيقول لك رغم وعيه بأن ما يفعله جنون: "أنا لا أستطيع، أشعر باضطراب كبير وحاجة ملحة لتكرار الفعل".
هل تعرفون لماذا سُمي بحر "الرَّجَز" في الشعر بهذا الاسم؟ لأنه اضطراب منتظم، كأنه حلقة (loop) أبدية متسارعة. إن صوت الرجز لغةً هو صوت وقع أقدام الخيل المضطربة عند حدوث مصيبة مُهلِعة. إنه تسارع أقدام مضطربة منتظمة، كمن يصرخ بانتظام "يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ". هذه الصرخة المتكررة هي وقع بحر الرجز (مستفعلن مستفعلن مستفعلن).
إن ما يقع فيه مريض الوسواس هو "رجز" حرفيًا: تكرار مضطرب هلعي لا قرار له، حلقة أبدية من وسواس الشيطان تكبّل الإنسان وتحبطه. ولذلك، لما أمر الله نبيه بقوله ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، أتبعها مباشرة بتحذير شديد اللهجة: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾! اهجر قطعيًا الوقوع في مسالك الغلو والوسوسة، لأن الله يعلم أن الرجز مضر تمامًا كالأذى، بل هو أشد، وأن التطهر من ميكروبات الجسد أهون ألف مرة من مرض يصيب قلبك من شدة الوسوسة، فيوقعك في رجز أبدي وعذاب نفسي مستطير.
إن جذر "نجس" ذُكر في القرآن مرة واحدة، أمام جذر "رجز" الذي ورد عشر مرات، لأنه يمثل عذابًا مستطيرًا أشد خطورة بعشرة أضعاف.
ثالثًا: "الأذى".. وصف للحالة لا حكم بالمنع
الآن، وبعد فهمنا لمعنى الرجز، تعالوا لنفهم كلمة "الأذى". هل الأذى في المحيض يعني أنه مانع للصلاة؟ هذا خلط رهيب بين المعاني. لنتعمق في جذر "أذى":
• ﴿...أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ...﴾ [البقرة: 196]
• ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى...﴾ [البقرة: 222]
• ﴿...وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ...﴾ [النساء: 102]
هذه الآية الأخيرة قاصمة. هل الأذى من المطر أو الأذى من الحيض يمنع من الصلاة؟ الأذى من مطر وطين لو أصاب ثوبًا وجب تطهيره تطبيقًا لأمر ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ حسب الاستطاعة، لكن هل هذا معناه أن الصلاة حُرّمت به أو بطلت؟ يا إخوة، الأذى هو كل ما يؤذي النفس، وقد جُبلت النفوس على الابتعاد عنه. والله يأمرنا عمومًا بالتطهر في الثياب والجسد، وهذا أمر عام. أما الاجتهادات في التفريق بين أنواع الأذى والغوص في بحارها، فقد أوقعتنا في الحرج.
حكمة الوضوء: كسر نصاب الوسوسة
الغريب أن الله في آية الوضوء، حين ذكر المجيء من الغائط، لم يذكر كيفية تطهير المخرج، بل أمر بغسل الوجه واليدين... إلخ. لماذا؟ لأن الاستنجاء عملية طبيعية يفعلها كل إنسان بفطرته، ولم تحتج لبيان وتعمق. لكن ما قد لا يعرفه البشر هو وجوب عمل آخر لكسر حالة من اللاطهارة أو مدخل شيطاني.
إن الكائنات الدقيقة، كما أثبت العلم، لها نظام اتصال متقدم (استشعار النصاب - Quorum Sensing) تعمل من خلاله ككائن واعٍ واحد. فما المانع أن تكون هذه الكائنات، القادرة على الوسوسة، هي المقصودة برجز الشيطان؟ إن الناس تفهم الشيطان ككائن أسطوري، بينما يعترف هو يوم القيامة بأنه لم يكن له سلطان إلا الدعوة والوسوسة.
الفكرة باختصار: أن دخول الإنسان لمواطن القاذورات يعني أن هناك بكتيريا ضارة كثيرة تستكمل نصابها، وتصبح قادرة على إعمال آثار سيئة على نفسية الإنسان وعقله. وبالتالي، فكرة أن الإنسان يتغوط من أسفله ويغسل أعضاء الوضوء في أعلاه منطقية جدًا، لأنها تكسر حد استشعار النصاب البكتيري هذا. إن الوضوء، علميًا وغيبيًا، يحمي الإنسان من استكمال نصاب التواصل الميكروبي الذي يؤثر على وعيه بالسلب.
نواقض الوضوء وموجبات الغسل في القرآن
قلنا إن نواقض الوضوء في الكتاب نوعان: المجيء من الغائط، وملامسة النساء. وموجبات الغسل هي الجنابة.
• الجنابة والغسل: لا شك أن ملامسة النساء في غير وقت الأذى ليس فيها أذى. والله حرم الجماع وقت الأذى، إذن فلا أذى قطعًا في فرج المرأة وقت الجماع الطاهر. بل هو محل طاهر نصًا، فيه نُفخت الروح في فرج مريم. والقول بأن المني نجس وفرج المرأة نجس هو حمق كبير. كيف تكون بذرة النوع البشري نجاسة وأذى؟ إن لم يكن هذا أطهر شيء على الأرض، فما هو الأطهر؟ أصدقائي، إن الأمر بالغسل بعد الجنابة ليس لنجاسة. الجنابة هي حالة بيولوجية تتبع القذف، تورث كسلًا في الجسد، فكان الغسل الكامل منشطًا ومعيدًا للحيوية.
• ملامسة النساء والوضوء: هي حالة تزيد من دقات القلب والتعرق، وتفرز إنزيمات تشبه ما قبل القذف، فاحتيج لها الوضوء فقط لتهدئة النفس وإعادتها للسكينة.
هذا كله لا علاقة له بزعم أن سوائل الجسد كالودي والمذي هي أذى. إنها ليست أذى لا طبيًا ولا دينًا. الله لم يخلق شيئًا نجسًا، بل منه الأذى ومنه الطيب. والنجس، كما أسلفنا، فعل مجازي لا يكون إلا للشرك. أما الأذى المادي (كطين المطر أو أذى الرأس أو دم الحيض)، فيتم التعامل معه بحيطة ونظافة، لا بتعسف ورجز ووسوسة.
الخلاصة: دعوة للتحرر
أيها القارئ، أرجوك أن تعيد قراءة هذا الفصل بدقة. الأمر جلل ومليء بحقائق مترابطة. لا تفترض أنك تعلم شيئًا من المنهج الموروث، بل وجه وجهك للقرآن واجعله إمامك وهاديك. ارفق بنفسك، واسهب في التدبر ولا تختصر، فالصورة أي اختصار فيها مُخل.
ثانيًا: "الرِّجْز".. فك شفرة الاضطراب القهري في القرآن
إن من أكبر آفات الفهم الموروث هو تعامله مع القرآن ككتاب تاريخ، فيُفرغ كلماته المفتاحية من معناها الحيوي ويُحنّطها في تفسيرات غابرة. ومن أعظم ضحايا هذا المنهج كلمة "الرِّجْز". فكلما استعصت عليهم هذه اللفظة، قالوا بسطحية: "هي الأصنام"، وانتهى الأمر! وكأن الله يخاطبنا عن أحجار لم نعد نراها، بينما يترك مرضًا فتّاكًا يدمر نفوس العابدين في كل عصر دون اسم أو تشخيص.
لكن القرآن ليس كتاب أساطير، وكلماته ليست طلاسم مندثرة. إن "الرِّجْز" عند تتبع وروده في سياقاته القرآنية العشرة، يكشف عن نفسه كتشخيص دقيق ومُزلزل لحالة نفسية خطيرة ومدمرة:
"الرِّجْز" هو حالة الاضطراب النفسي القهري، والهلع المتكرر، والوسوسة التي تُسقط الإنسان في دوامة مظلمة من العذاب واللوم الذاتي، حلقة مفرغة لا قرار لها.
لنتأمل الأدلة:
- صوت الرجز ولغته: كلمة "رَجَز" في أصلها اللغوي تحمل معنى الاضطراب والتتابع السريع غير المنتظم. تخيل صوت وقع أقدام الخيل حين تُفاجأ بحريق أو هجوم؛ إنه ليس صوت القوة والثبات (كالعاديات ضبحًا)، بل هو صوت الهروب والهلع، صوت ارتجاف الأطراف في دورة متسارعة يائسة. ومن هنا جاء "بحر الرَّجَز" في الشعر، بوقعه المتكرر المضطرب (مستفعلن مستفعلن مستفعلن)، كأنه يحاكي صرخة متكررة من الهلع: "يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ... يَا وَيْلَنَا...". إنه صوت الاضطراب الذي أصبح نمطًا.
- الرجز كعذاب: عندما يقع الرجز على قوم كعذاب من السماء (﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾)، فهو ليس مجرد ضربة واحدة، بل هو حالة من الهلع والاضطراب المتصاعد الذي لا يعرفون الخروج منه. تمامًا كما حدث مع آل فرعون، حلقات متتالية من العذاب تضعهم في حالة "رجز" نفسي لا يهدأ، حتى ينهاروا ويستسلموا.
- الرجز كمرض: وصف الله الخمر والميسر بأنها "رجس من عمل الشيطان"، والرجس هنا هو ابن عم الرجز أو وجهه الآخر. لماذا؟ لأنها توقع الإنسان في "رجز" الإدمان. المدمن على الخمر أو القمار يعيش في حالة نفسية مهزوزة، مضطربة، تدفعه لتكرار الفعل بشكل قهري رغم معرفته بضرره، غارقًا في أفكار تأنيبية مظلمة وحلقات من الضعف المتكرر. إنه "يرجز" حرفيًا في اضطراب منتظم.
- الرجز هو الوسواس القهري: لو بحثت في كل قواميس علم النفس عن أدق وصف لحالة مريض الوسواس القهري (OCD)، فلن تجد أبلغ من كلمة "رجز". إنه التكرار المضطرب، الهلعي، الذي لا قرار له، حلقة مفرغة (loop) أبدية من وسواس الشيطان تكبّل الإنسان وتحبطه. اسأل من ابتُلي بهذا المرض، سيقول لك: "أعلم أن ما أفعله خطأ وغير منطقي، لكني مجبور، أشعر باضطراب هائل لا يهدأ إلا بتكرار الفعل". إنه ساقط في نقطة اللاعودة، يشعر بالعجز والاستسلام الكامل للوسواس.
من هذا العمق، نفهم الآن الأمر الإلهي المهيب في سورة المدثر: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
الأمر ليس مجرد وصيتين متجاورتين، بل هو منهج حياة متكامل. طهّر ثيابك من الأذى المادي الظاهر، ولكن الأهم، والأخطر، والأولى بالاهتمام: اهجر الرجز! استخدم القرآن كلمة "اهجر"، وهي أبلغ من "اترك" أو "اجتنب"، فالهجران يعني القطيعة التامة والكراهية والابتعاد الكلي.
كأن الله يقول: إياك أن تجعل تطهير الثوب مدخلاً لتدنيس الروح بالوسوسة. إن الأذى الذي تتطهر منه من مواد خارجية أهون ألف مرة من مرض "الرجز" الذي يصيب قلبك من شدة الغلو، فيوقعك في عذاب نفسي مستطير.
إن ذكر "النجس" مرة واحدة في القرآن مقابل ذكر "الرجز" عشر مرات، لهو برهان قاطع على أن الخطر الأعظم في منظور الله ليس في قذارة مادية، بل في هذا العذاب النفسي والاضطراب الروحي الذي هو غاية الشيطان وهدفه الأسمى. وهو للأسف ما وقع فيه كثير من المتعبدين، حين تركوا يسر القرآن وهدايته، وغرقوا في بحار الفقه الموروث، فأصابهم "الرجز" وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
لم تعطي تحليل كلمة رجز عمقها في موضوع الخمر و الميسر كاضطراب وسواسي ادماني
ا الخمر والميسر: تشريح "الرِّجْز" كاضطراب وسواسي إدماني
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ...﴾ [المائدة: 90].
إن كلمة "رجس" هنا ليست مجرد مرادف للقذارة المادية. لو كان الأمر كذلك لقال الله "نجس" أو "قذر". لكنه اختار كلمة "رجس" التي تحمل في طياتها معنى الاضطراب والحركة القهرية والاهتزاز النفسي، وهو جوهر معنى "الرجز". إن الله لا يصف المادة بقدر ما يصف الأثر النفسي والسلوكي الذي تحدثه في الإنسان.
والآن، لنُشرّح حالة مدمن الخمر أو المقامر، ولنرَ كيف تنطبق عليه أبعاد "الرجز" بدقة مذهلة:
- الحلقة القهرية المتكررة (The Compulsive Loop):
جوهر الإدمان ليس أنه فعل سيئ، فقط بل قد يكون فعلا سيئا لكن الأسوء بل أنه سلوك قهري خارج عن السيطرة. المدمن لا يختار الشرب أو المقامرة في كل مرة بنفس الوعي الذي يختار به طعامه. بل هو مدفوع بقوة داخلية هائلة، "حاجة ملحة" كما يصفها الأطباء، تجعله يكرر الفعل رغم وعيه التام بعواقبه المدمرة على صحته وماله وأسرته.
هذا التكرار ليس هادئًا، بل هو تكرار مضطرب. إنه "بحر الرَّجَز" النفسي: (أريد أن أتوقف... لا أستطيع... يجب أن أفعلها الآن... سأفعلها لآخر مرة... لماذا فعلتها؟... أنا أكره نفسي... أريد أن أتوقف...). هذه هي دورة "مستفعلن مستفعلن مستفعلن" التي تدور في نفس المدمن بلا توقف، وهي صوت الرجز الذي لا يهدأ.
- الاضطراب النفسي الدائم (The Constant Turmoil):
حياة المدمن ليست لحظات من السعادة تتخللها لحظات من الألم. بل هي حالة من الاضطراب الدائم.
• قبل الفعل: يعيش في "رجز" التوق والاشتياق واللهفة (Craving)، وهو قلق وتوتر نفسي هائل.
• أثناء الفعل: يعيش في "رجز" فقدان السيطرة، حيث تتحرك نفسه بغير انتظام، وتتأرجح مشاعره بين النشوة الزائفة والهلع من الخسارة.
• بعد الفعل: يقع في أعمق أنواع "الرجز"، وهو رجز اللوم والندم وتأنيب الضمير والخزي والعار. هو يعيش في بئر مظلمة من الأفكار السوداوية.
إنه لا يعرف السكينة أبدًا. حياته كلها اهتزاز واضطراب، وهذا هو المعنى الحرفي للرجز.
- الاستسلام لوسواس الشيطان:
الآية تربط هذا الرجز مباشرة بـ "عمل الشيطان". وهذا لبّ المسألة. إن عمل الشيطان ليس مجرد تزيين للمعصية، بل هو زرع هذا النظام الوسواسي القهري في النفس البشرية. هدف الشيطان هو أن يسلب الإنسان إرادته الحرة، ويجعله عبدًا لهذه الحلقة المفرغة من الرجز، فيتحول من كائن مكرّم إلى آلة مضطربة تدمر نفسها بنفسها.
عندما يقع الإنسان في فخ الإدمان، فهو حرفيًا يستسلم لوسواس الشيطان، ويصبح عاجزًا عن مقاومة هذا الاضطراب الداخلي، تمامًا كمريض الوسواس القهري الذي يغسل يده ألف مرة. إنهما وجهان لعملة واحدة: عملة "الرجز" الشيطاني.
لذلك، فإن تسمية الله للخمر والميسر بأنهما "رجس" هو إعجاز علمي ونفسي سابق لعصره. لم يقل إنهما "حرام" فقط، بل شرح لنا لماذا هما كذلك، عبر تشخيص دقيق لعلتهما وجذرهما: إنهما يُحدثان في النفس "رجزًا"، حالة من الاضطراب القهري والسلوكي والإدماني الذي هو من صميم عمل الشيطان لتدمير الإنسان. وهذا الفهم العميق هو ما يعطينا القوة الحقيقية لاجتنابهما، ليس خوفًا من عقاب فحسب، بل حمايةً لأرواحنا من هذا المرض الفتاك.