عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفصل السادس: "اقتلوا أنفسكم" - مفتاح فهم الفتنة الكبرى

الكتاب الثاني: قراءة الفتنة الكبرى بنور القرآن

الفصل السادس: "اقتلوا أنفسكم" - مفتاح فهم الفتنة الكبرى

مقدمة: آية حُبست في سجن الفردية

من أكثر الآيات التي أثارت حيرة ودهشة في كتاب الله قوله تعالى لبني إسرائيل بعد عبادتهم للعجل: ﴿...فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ...﴾ (البقرة: 54). لقد فهمها المفسرون على أنها أمر إلهي بالانتحار الجماعي، أو بأن يقتل بعضهم بعضًا كعقوبة للتوبة. وهذا فهمٌ، مع غرابته وقسوته، يصادم روح القرآن كله القائمة على الرحمة.

ولكن، ماذا لو أن المشكلة ليست في الآية، بل في "العين" التي نقرأ بها؟
إننا نقرأ القرآن اليوم بعيون "أفراد" يعيشون في صحراء "الفردية" القاحلة منذ قرون. كل منا يسعى لنجاته الشخصية، وعلاقته بربه علاقة منعزلة. لذلك، حين يخاطبنا القرآن بمنطق "الأمة الجسد"، يبدو خطابه لنا غريبًا، كسرد حكايات عن قوم "الإسكيمو" لرجل لم ير في حياته إلا رمال الصحراء.

في هذا الفصل، سننزع عن أعيننا نظارة "الفردية" لنرى القرآن كما أنزله الله: دستورًا لـ "جسد واحد". وحينها فقط، سنفهم أن آية "اقتلوا أنفسكم" ليست أمرًا بالانتحار، بل هي مفتاح لفهم أعمق سنن الله في حماية الجماعة المؤمنة، وهي المفتاح الذي سيكشف لنا حقيقة ما جرى في الفتنة الكبرى.

1. القرآن يخاطب جسدًا واحدًا

إن أول حقيقة يجب أن تستقر في قلب من يتدبر القرآن هي أن خطابه في الغالبية العظمى من التكاليف هو خطاب "جماعي". ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿وَأَقِيمُوا﴾، ﴿وَآتُوا﴾، ﴿وَقَاتِلُوا﴾.
لماذا؟ لأن الإسلام ليس "مشروع نجاة فردي" فحسب، بل هو "مشروع بناء أمة". الفرد هو اللبنة، ولكن الله يريد بناء "بنيان".
والدليل القاطع على أن القرآن يعتبر الأمة جسدًا واحدًا، يأتي من القرآن نفسه. في سورة البقرة، يعاتب الله بني إسرائيل على اقتتالهم الداخلي فيقول:
﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ...﴾ (البقرة: 85).
من المستحيل أن يكون معنى ﴿تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ هنا هو الانتحار، بل معناه واضح جلي: "يقتل بعضكم بعضًا".
إذًا، هذه هي القاعدة اللغوية القرآنية: الاقتتال الداخلي هو "قتل للنفس" الجماعية، هو انتحار للأمة.

2. تشريح فتنة العجل: جراحة الورم السرطاني

الآن، بهذا المفتاح، لنعد إلى فتنة العجل. إن الأمر لم يكن مجرد خطأ عقائدي ارتكبه أفراد ثم تابوا. بل تحول الأمر إلى "تمرد مسلح" داخل جسد الأمة الوليدة. الدليل هو قول هارون عليه السلام لموسى، مبررًا عدم استخدامه القوة:
﴿...إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ...﴾ (طه: 94).
لقد خشي هارون من وقوع "حرب أهلية". وهذا يثبت أن عبَدة العجل كانوا فئة ممتنعة بالسيف، مستعدة للقتال في سبيل شركها.
لقد نبت "ورم سرطاني" في قلب جسد الأمة، يهدد بقتل الجسد كله.
فماذا كان العلاج الإلهي؟
لم يكن عقابًا للتائبين، بل كان أمرًا للفئة المؤمنة السليمة بإجراء "جراحة مؤلمة" لاستئصال هذا الورم. ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾، أي: يا أيها الجزء السليم من الجسد، قاتلوا الجزء المريض منكم الذي تمرد على الله بالسيف، واستأصلوه. نعم، هذه الجراحة هي "قتل للنفس" الجماعية، وهي مؤلمة، ولكنها ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ﴾ من أن يموت الجسد كله بالسرطان.

خاتمة: مفتاح فهم الفتنة الكبرى

إن هذا المبدأ القرآني - مبدأ حتمية "الجراحة الداخلية" لاستئصال التمرد الشركي المسلح - هو المفتاح الذي سنستخدمه في الفصول القادمة لفهم ما جرى في الفتنة الكبرى التي عصفت بالأمة بعد مقتل عثمان.
حين تقوم فئة من داخل "جسد الأمة" بارتكاب جريمة عظمى (قتل الإمام)، وتتحالف مع القتلة، ثم ترفع السيف لفرض سلطانها بالقوة، وتستبدل "الشورى" بـ "العصبية"، فإنها تتحول إلى "ورم سرطاني" يهدد حياة الأمة كلها.
عندها، يصبح الموقف ليس مجرد خلاف سياسي، بل يصبح تطبيقًا للسنة الإلهية في حماية جسد الأمة. فهل كان ما حدث بعد ذلك تطبيقًا لهذا المنهج الرباني، أم خروجًا عنه؟
هذا ما سنراه في الفصول التالية بإذن الله.

سجل المراجعات