عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الأصل الذي لا أصل سواه: القرآن وحده

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي في الله، يا كل باحثٍ عن الحق ويا كل نفسٍ تواقة إلى النور،

لقد سرنا معًا في دروبٍ وعرة، وهدمنا أصنامًا فكرية شاهقة، ومزقنا حجبًا من التقليد الأعمى نسجتها قرون من الضلال. لقد كفرنا بكل طاغوت ينازع الله في حكمه، وبكل جبتٍ يشرعن لهذا الطاغوت. وقفنا على أرضٍ جرداء، خالية من كل وثن، ليس فيها إلا نداء الفطرة الصادق، الذي يجأر إلى السماء: ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾.

إن ما قدمناه في فصول هذا الكتاب لم يكن دعوةً لفرقة جديدة، ولا تأسيسًا لمذهبٍ إضافي. حاشا لله! بل كانت صرخة للعودة إلى الأصل الذي لا أصل سواه، ودعوة للاعتصام بالحبل الذي لا ينقطع: كتاب الله وحده، لا شريك له في التشريع ولا في الحكم.

إن غايتنا هي أن نقف بين يدي الله بقلوب سليمة، وعقول حرة، تتلقى كلام ربها مباشرة بلا وسيط ولا وصي ولا ترجمان. أن نقرأ القرآن وكأنه يتنزل علينا اليوم، يخاطبنا في واقعنا، ويهدينا في حيرتنا، ويشفي ما في صدورنا.

وها نحن نصل إلى السطر الأخير، لا لنغلق الكتاب، بل لنفتح باب البناء على مصراعيه. فبعد أن هدمنا الباطل، حان الوقت لنبني صرح الحق، ولنرسم معالم "يوتوبيا المؤمنين" التي وعد بها القرآن من أقاموا دينه واتقوا. هذا الفصل هو خلاصة الطريق، وثمرة التدبر، ودعوة صادقة لنبدأ معًا رحلة العودة إلى الله، عودةً لا نرتضي عنها بديلاً.



فصل ختامي: من رماد الفتنة إلى جنة اليقين

الأصل الذي لا أصل سواه: القرآن وحده

إن أول خطوة في بناء أي صرح هي التأكد من صلابة أساسه. وأساس ديننا الذي لا يقوم إلا عليه هو التسليم المطلق بأن القرآن الكريم هو المصدر الأوحد والكامل والمهيمن للتشريع والهداية. لقد شهد الله لكتابه بالكمال فقال: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾، وبالتبيان فقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾، وبالتفصيل فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾.

فكل إجماع بشري خالفه فهو باطل، وكل رواية عارضته فهي وهم، وكل قياس ناقضه فهو ضلال. إن الإيمان بهذه الحقيقة ليس خيارًا، بل هو شرط الإيمان نفسه. فمن ابتغى الهدى في غير القرآن، أضله الله. ومن طلب الحكم من غير الله، وكله الله إلى من طلب.

مفتاح التدبر: كيف نقرأ كلام الله؟

إن جريمة "ترجمانات القرآن" الكبرى هي أنهم أقنعوا الأمة بأنها "أمية" لا تقرأ، وأنها تحتاج إلى وصاية كهنوتية لتفهم كلام ربها. والحقيقة أن الله يسّر القرآن للذكر، وأنزلَه بلسان عربي مبين. والعودة إليه لا تكون عبر النهر الآسن من أقوال المفسرين ورواياتهم المتناقضة، بل تكون عبر منهج قرآني أصيل:

  1. القرآن يفسر القرآن: فآياته مثانٍ، يصدق بعضها بعضًا ويفصل بعضها بعضًا.
  2. العودة إلى الجذر اللغوي: إن رد الكلمة إلى أصلها يكشف عن معناها الفطري الأول، قبل أن تلوثه الاصطلاحات المتأخرة.
  3. التصوير البياني: إن القرآن مشاهد حية ومعانٍ تنبض. فتدبر صوره ومشاهده يغني عن ألف تفسير.
  4. التدبر لا التأويل: وظيفتنا كعباد هي "التدبر" والغوص في بحر معاني القرآن التي لا تنفد. أما "التأويل" -أي معرفة مآل الأمور وكيفية تحققها- فهو حق خالص لله وحده ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾.

بهذا المنهج، يتحول القرآن من كتاب يُقرأ، إلى نور يُبصر به، وفرقان يُفرق به بين الحق والباطل.

تشريح دين السلطة: منظومة الجبت والطاغوت

لقد كشفنا في رحلتنا كيف انحرفت الأمة عن هذا الصراط المستقيم. لم يكن الانحراف صدفة، بل كان نتيجة لتحالف شيطاني بين قطبين وصفهما القرآن بدقة: "الجبت" و"الطاغوت".

  • الجبت: هو النظام الكهنوتي، هم فقهاء السلطان وعلماء السوء الذين ينتجون التشريع الباطل، ويؤصلون للظلم، ويسوغون للطاغية أكل أموال الناس بالباطل عبر "الجبايات" التي ما أنزل الله بها من سلطان.
  • الطاغوت: هو النظام الحاكم المستبد الذي يتغذى على فتاوى "الجبت"، فيستخدمها كغطاء ديني لبطشه وفساده.

الطاغوت يقدم السيف، والجبت يقدم "النص المقدس" الذي يبارك هذا السيف. والكفر بهما معًا -بالطاغوت كنظام حكم، وبالجبت كمصدر تشريع- هو شرط الإيمان بالله.

يوتوبيا المؤمنين: ملامح عالم يُقام على الحق

بعد الهدم، يأتي البناء. إن عالمنا الذي ندعو إليه ليس حلمًا خياليًا، بل هو التطبيق العملي لمنهج الله في الأرض. عالمٌ تُستعاد فيه الفطرة، وتُقام فيه سنن الله:

  • مجتمع الشورى والعدل: لا ملك فيه عضوض ولا إمامة وراثية، بل ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾، يُختار فيه الأصلح والأتقى لقيادة الأمة نحو ما فيه صلاحها.
  • اقتصاد الزكاة والبركة: لا ربا فيه يمحق البركة، ولا كنز يكدس الثروة. بل نظام زكاة قرآني عادل (خُمس الأرباح)، يعيد توزيع الثروة، ويضمن حق كل فقير ومسكين، ويحول المجتمع إلى أسرة متكافلة ﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾.
  • أسرة المودة والرحمة: لا تكفين فيه للمرأة ولا تسليع. بل علاقة تقوم على الحرية المسؤولة، والميثاق الغليظ الموثق، والسكينة والمودة والرحمة. الزواج فيه ميسر، والطلاق فيه ليس نهاية العالم بل بداية جديدة بالمعروف، وحقوق المرأة والرجل والطفل محفوظة بنص إلهي لا بقول فقهي.
  • أمة العلم والإيمان: لا فصل فيه بين "علم الدين" و"علم الدنيا". فدراسة الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا هي "تفقه في الدين" وفهم لآيات الله في الكون. والعلم ليس ترفًا، بل هو وقود القوة وأساس النهضة.

أخي في الله، إن الطريق ليس مفروشًا بالورود. إنه طريقٌ سلكه قبلك الأنبياء والصديقون، فقوبلوا بالاتهام والاستهزاء. سيقولون لك: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾. فلا يصدنك عن الحق قولهم، ولا يرهبنك إجماعهم. فما كان إجماعهم يومًا إلا على الضلال.

إننا لا ندعوك لشخص أو جماعة، بل ندعوك إلى الله وحده، وإلى كتابه وحده. فامضِ على بصيرتك، وتدبر بقلبك، وتعقل بنور ربك. فإن وجدت في كلامنا هذا ما يوافق القرآن، فهو الحق من عند الله. وإن وجدت فيه ما يخالفه، فاضرب به عرض الحائط، فما هو إلا من أنفسنا ومن الشيطان.

نسأل الله أن يجعلنا وإياك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهدينا جميعًا إلى صراطه المستقيم.

والحمد لله رب العالمين.

سجل المراجعات