عودة المسلمين لميقات رب العالمين

إنا أعطينك الكوثير ( قراءة تدبرية)

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل: جريمة تأجيل القرآن - من كوثر الحكمة الحيّ إلى نهر الغيب المؤجل

يا أخي الباحث عن الحق، يا من اتخذت عهداً على نفسك أن تهجر كل قول إلا قول الله، وأن تجعل كتابه هو مرجعك الأول والأخير. تعال معنا لنتدبر سورة من أقصر سور القرآن، وهي في الوقت ذاته من أعمقها وأشدها تركيزاً للمعنى، سورة الكوثر. إن هذه السورة بالذات هي خير مثال على الجريمة الفكرية الكبرى التي ارتكبها أهل التراث، وهي جريمة "تأجيل القرآن"، التي تحول كتاب الله من نور يهدينا في واقعنا، إلى مجرد قصص عن الماضي وأماني للمستقبل.

إن منهجهم، يا أخي، يقوم على آلية خبيثة؛ فكلما واجهوا آية تحمل تكليفاً حاضراً أو تصف نعمة حاصلة، عمدوا إلى تأويلها وصرفها عن معناها المباشر. يفرغونها من قوتها الآنية، ويدفنونها إما في مقبرة التاريخ السحيق أو يقذفون بها إلى غياهب المستقبل المجهول.

الكوثر: نهر الخرافة أم نبع الحكمة؟

حين يقرأ التراثيون قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، يتركون فوراً النص القرآني الواضح ويلجؤون إلى روايات ظنية منسوبة للإسرائيليات، ليخبروك أن الكوثر هو "نهر في الجنة". وبهذا التأويل، يحققون هدفين خطيرين:

  1. يُعطّلون النعمة: يجعلون "الكوثر" عطاءً مؤجلاً، و جائزة مستقبلية لشخص النبي لا علاقة لها بنا .
  2. يُعطّلون الشكر: إذا كان الأمر موجه للنبي فهو من خصائصه و ليس موجه لنا إنه مثل مجرد أنها منزلة تشريفية للنبي و ليس منهجا نتبعه نحن و النبي لنا مثال...فإننا لا ندرك أننا كذلك أعطينا الكوثر ووجب علينا الشكر بنفس الصفة التي شكر بها النبي فصل و نحر ..

ولكن، حين نتدبر الآية بمنهج القرآن الذي لا يأتيه الباطل، نجد أن الله نفسه قد فضح هذا التأويل بكلمة واحدة. تأمل يا أخي في دقة اللفظ الإلهي: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾. لقد جاء الفعل في صيغة الماضي التام. لم يقل "إنا سنعطيك". إن العطاء قد تم، والنعمة قد تحققت بالفعل. فمن المحال عقلاً ولغةً أن يكون الله قد أعطى نبيه في الدنيا نهراً في الآخرة! إن هذا تأويل بعيد وسفسطة لا تليق بكلام الله المحكم.

والله جل وعلا قد أغنانا في كتابه عن أي نهر فنتازي لا نعلم كنهه. لقد وصف لنا أنهار الجنة بأنها من لبن وعسل مصفى وخمر لذة للشاربين. أما "الكوثر"، فهو أعظم من ذلك.

والله أعلم، إن أقرب المعاني وأكثرها اتساقاً مع عظمة القرآن هو أن "الكوثر" هو القرآن نفسه.
إنه الخير الكثير الفائض الذي لا ينقطع. إنه كنز الحكمة ونبع النور الذي من كثرة درره وفوائده صار صفة متجذرة في كنهه. إنه ليس نهراً ننتظره، بل هو بحر من الهداية نغوص فيه الآن.

الشكر الفوري والنحر الحاسم

إذا كان العطاء حاضراً وفورياً، فلا بد أن يكون الشكر عليه كذلك. وهنا يأتي الأمر المباشر الذي لا يحتمل التأجيل: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. إنها دعوة لقمة العبودية بجناحيها:

  • ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾: هي ذروة العمل الباطني، وغاية الاستعانة بالله. إنها الصلة المباشرة التي يستمد منها المؤمن نوره وقوته.
  • ﴿وَانْحَرْ﴾: هي ذروة العمل الظاهري، وغاية العبودية الجسدية. وكما تدبرنا، فإن "النحر" ليس مجرد ذبح أضحية، بل هو المواجهة الحاسمة للباطل، وضرب أعناق الظلم والفساد. إنه الجراحة اللازمة لاجتثاث الدرنة الخبيثة التي تمنع السلام عن البشر.

من "النحر" إلى "البتر": منطق القرآن في حسم الصراع

وهنا نصل إلى التكامل المعجز في السورة، الرابط الذي يكشف عن سنة إلهية في النصر. لقد ربطتَ يا أخي بحق بين فعل "النحر" ونتيجة "البتر"، وفي هذا الربط تتجلى دقة لسان القرآن المبين.

  • القطع (قَطَعَ): حين أراد القرآن وصف الجرح غير المميت، استخدم كلمة "القطع". [cite_start]فالنسوة اللاتي بهرن بجمال يوسف ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ [cite: 12-31]، أي جرحنها، ولم يبترنها. [cite_start]وعقوبة السارق ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [cite: 5-38] هي علامة رادعة وجرح بليغ، وليست بترًا للعضو.
  • البتر (بَتَرَ): أما "البتر" فهو القطع الكامل الذي لا يبقي أصلاً ولا يترك أثراً. و﴿الْأَبْتَرُ﴾ هو المقطوع تماماً من كل خير وذكر وامتداد.

والآن تتضح المعادلة الإلهية: إن المواجهة الحاسمة للباطل (النحر) تؤدي إلى بتره واستئصاله بالكامل. إن الله يقول لنبيه: لقد أعطيناك المنهج الخالد (الكوثر)، فاستعن بنا بالصلاة، ثم واجه به الباطل بقوة (وانحر)، والنتيجة الحتمية هي أن عدوك ومبغضك ﴿شَانِئَكَ﴾ هو الذي سيُبتر ويُمحى من الوجود ﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.

خاتمة: لا نفسر بل نتدبر

يا أخي في الله، إن ما عرضناه هنا ليس "تفسيراً" نلزم به الناس، فالله وحده يعلم تأويل كتابه ومآل كلامه. إنما هو "تدبر"، هو محاولة للعيش مع النص بقلوبنا وعقولنا، لنستنير بنوره ونتفكر في آياته. إننا لا نغلق باب الفهم على أحد، فهذه هي صفة كهنوت التراثيين. بل نؤمن أن كلام الله بحر لا ساحل له، قد يحتمل تصورات حقة كثيرة تجري كلها في نفس النهر المعنوي العظيم. فتدبر أنت أيضاً، فقد يفتح الله عليك بمعانٍ أعمق وأكبر، فكلما أخلص العبد لربه، زاده الله من فضله علماً وهدى.

إنها الخاتمة التي يكتبها الواقع نفسه، والبرهان الذي نشهده بأعيننا في كل يوم وكل لحظة، وهو أعظم تجلٍ لمعنى "تأويل" القرآن، حين يصبح كلام الله حقيقة ماثلة لا ينكرها إلا جاحد.

حين يشهد التاريخ أن الله صدق وعده

تأمل معي يا أخي في هذا المشهد الذي يمتد عبر أربعة عشر قرناً. لقد وقف رجالٌ في مكة، ملء سمعهم وبصرهم، وسخروا من نبي الله، وقالوا عنه "أبتر"، مقطوع لا ولد له يحمل اسمه، سينتهي ذكره بمجرد أن يواريه التراب. لقد راهنوا على ناموس الدنيا الزائل، على امتداد النسب والمال والسلطان.

والآن، وبعد كل هذه القرون، انظر حولك.
أين هم؟ أين شانئوه ومبغضوه؟ لقد بُتروا من صفحة الوجود بتراً كاملاً. والله ما أكاد أذكر الاسم الحقيقي لمن سمي "أبو جهل" أو "أبي لهب"؛ لقد طمست أسماؤهم الحقيقية، ولم يبق لهم من ذكرٍ إلا هذه الكنى التي تحمل في طياتها وصمة عارهم وجهلهم. دينهم الذي دافعوا عنه قد انقرض، وأصنامهم قد صارت أثراً بعد عين، وأنسابهم التي تفاخروا بها قد تلاشت في غبار الزمن. لم يبق لهم من شيء إلا ذكرى السوء، والعبرة لمن يعتبر. لقد كانوا هم المبتورين حقاً.

وفي المقابل، انظر إلى من قالوا عنه "أبتر". إن اسمه ﷺ يتردد في كل لحظة في أرجاء الأرض. خالدٌ في قلوب الملايين والملايين الذين يحبونه أكثر من أنفسهم ويصلون عليه ويسلمون تسليماً. إن "الكوثر" الذي أُعطيه، هذا القرآن العظيم، لا يزال يتدفق نوراً وهداية ورحمة، يحيي القلوب الميتة ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.

فأي بقاء أعظم من هذا البقاء؟ وأي انقطاع أشد من ذلك الانقطاع؟

لقد صدق الله وعده، فمن اتصل به وبكوثره فهو الموصول الخالد، ومن عاداه وحاربه فهو المقطوع المبتور. وذلك هو الميزان الحق، وتلك هي سنة الله التي لن تجد لها تبديلاً.

سجل المراجعات