عودة المسلمين لميقات رب العالمين

خاتمة وليس نهاية

أخي في الله،

نصل الآن إلى مسك الختام، إلى الخاتمة التي هي ليست نهاية البحث، بل هي جوهره وثمرته. فبعد أن سرنا في الأرض، وتتبعنا الآثار، وقرأنا التاريخ بنور القرآن، حان الوقت لنجمع كل الخيوط ونصل إلى القانون الأعظم الذي يحكم علاقة الله بكل خلقه. إنها الخلاصة التي تضع كل شيء في نصابه، وتجيب على السؤال الأبدي: ما هو طريق النجاة؟



بسم الله الرحمن الرحيم

الخاتمة

ميثاق النجاة الأعظم: عدل الله الذي وسع كل شيء

لقد كانت رحلتنا في هذا الكتاب رحلة عبر الزمان والمكان، تتبعنا فيها آثار قصة عظيمة، قصة موسى وبني إسرائيل وفرعون. لقد دخلنا بيوت العلم من أبوابها، فقرأنا صمت الحجارة، وحللنا انهيار الإمبراطوريات، وغصنا في أسرار القصور، واستمعنا إلى صدى الأنبياء في ثورات المصلحين. ولكن هذه الرحلة كلها لم تكن غاية في ذاتها، بل كانت وسيلة لفهم "سنة الله"، قانونه الأزلي الذي لا يتبدل ولا يحابي أحدًا.

فبعد النظر في عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين، نصل الآن إلى القاعدة الكلية التي حكمت كل تلك الأحداث، والتي تحكم حياتنا اليوم وإلى يوم الدين. إنها دستور النجاة الذي أعلنه الله في كتابه، والذي يمثل قمة العدل والرحمة الإلهية.

تأصيل القاعدة: الدستور الإلهي للنجاة

في خضم السجال البشري حول "من هي الفرقة الناجية؟" ومن هو "شعب الله المختار؟"، يقطع القرآن كل جدال بآية قاطعة، يكررها في سياقات مختلفة ليؤكد أنها قانونه الثابت الذي لا يتغير. يقول تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 62)

هذه الآية ليست مجرد جملة، بل هي ميثاق إلهي عالمي. وكما أن قوانين الله الكونية، كالجاذبية وحركة الأفلاك، تسري على كل شيء في الوجود بغض النظر عن اسمه أو مكانه، فكذلك قانونه للنجاة يسري على كل نفس بشرية بغض النظر عن اللافتة التي ترفعها. فالله في هذه الآية يلغي كل قيمة للأسماء والانتماءات الطائفية (آمَنُوا, هَادُوا, نَصَارَىٰ, صَابِئِينَ) ويضع بدلاً منها عقدًا فرديًا ومباشرًا بين العبد وربه، له ثلاثة شروط واضحة:

  1. الإيمان بالله: توحيد خالص لا يشوبه شرك، وإقرار له بالربوبية والألوهية المطلقة.
  2. الإيمان باليوم الآخر: اليقين بوجود حساب وجزاء، مما يؤسس للمسؤولية الأخلاقية.
  3. العمل الصالح: ترجمة هذا الإيمان إلى فعل مثمر يصلح النفس والمجتمع.

إن تاريخ الأمم الذي استعرضناه هو التطبيق العملي لهذا القانون. لقد هلك فرعون وجنوده ليس لأنهم "مصريون"، بل لأنهم كفروا بالله واليوم الآخر وعملوا الفساد في الأرض. ونجا موسى ومن معه ليس لأنهم "بنو إسرائيل"، بل لأنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وصبروا على الأذى. بل إن بني إسرائيل أنفسهم، عندما نقضوا هذا الميثاق لاحقًا، عاقبهم الله وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ليؤكد أن معياره واحد، وأن عدله لا يحابي أحدًا.

"الصابئة": رحمة الله تشمل كل باحث عن الحقيقة

إن من أعظم تجليات رحمة الله في هذا الدستور هو ذكره لفئة "الصابئين". إن هذه الكلمة، بجذرها اللغوي العربي (صبأ: أي خرج عن حالته)، ليست اسمًا لطائفة تاريخية محصورة، بل هي وصف إلهي لكل نفس بشرية، في أي زمان ومكان، قامت بفعل بطولي عظيم: الخروج عن شرك الآباء والمجتمع، والبحث عن الحقيقة بنور الفطرة والعقل.

"الصابئ" هو ذلك النموذج الإنساني النبيل الذي يرفض أن يعبد ما يعبده قومه دون برهان.

  • إنه أخناتون-الله أعلم به - الذي صبأ عن كهنوت آمون المعقد، باحثًا عن الإله الواحد خلف قرص الشمس.
  • إنه سقراط-الله أعلم به - الذي صبأ عن آلهة الأوليمب المتقلبة، باحثًا عن الخير المطلق للإله الحق فأمن بالله و اليوم الآخر، فقتله قومه.
  • إنه الحنيفي في صحراء العرب قبل الإسلام، الذي نظر إلى السماء وقال: "إن لهذا الكون ربًا"، فرفض السجود للأصنام.
  • إنه كل عالم وفيلسوف ومفكر، في الصين أو الهند أو أي بقعة من الأرض، قاده عقله الصافي إلى الإقرار بوجود خالق واحد عظيم، وعاش حياة صالحة، حتى وإن لم تصله رسالة نبي.

لقد فتح الله بهذه الكلمة باب رحمته ليشمل كل الصادقين في بحثهم عن الحقيقة، ليؤكد أن فضله لا يقتصر على أتباع الرسل المعروفين فحسب، بل يشمل كل من استجاب لنداء الفطرة التي فطر الناس عليها.

خلاصة المنهج: النجاة بالحقائق لا بالعناوين

إن رحلتنا عبر قصة موسى وفرعون تنتهي بنا إلى هذه الحقيقة الجوهرية: إن المنهج القرآني في فهم التاريخ والحياة يقوم على أن النجاة عند الله بالحقائق لا بالعناوين، وبالجوهر لا بالمظهر.

إن الله لا يسألنا يوم القيامة عن الطائفة التي ننتمي إليها، أو الاسم الذي نتسمى به، بل يسألنا عن حقيقة ما وقر في قلوبنا وصدقته أعمالنا. هل حققنا شروط الميثاق؟ هل عبدناه وحده لا شريك له؟ هل استعددنا ليوم الحساب؟ هل كان عملنا صالحًا أم طالحًا؟

إن السير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لترسيخ هذا اليقين في نفوسنا. هو تذكير بأن قوانين الله ثابتة، وأن ميزانه عادل، وأن طريق النجاة واحد وواضح ومفتوح لكل من يطلبه بصدق، من أي عرق كان، وفي أي زمان عاش.

فلتكن هذه هي خلاصة منهجنا في الحياة: أن نسعى لنكون من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا، غير معتدين بأسماء أو انتماءات، بل معتمدين على رحمة الله وعدله الذي وسع كل شيء.

سجل المراجعات