على أي شيء نجتمع؟
إن عالمنا الذي سجن الإنسان في زنزانة الحقوق الفردية، جعلنا نجهل أن اجتماعنا فريضة. وإن أردنا أن نجتمع، فيجب أن نسأل السؤال الأصعب أولاً: على أي شيء نجتمع؟! إن لكل منا منشأً وتصورًا ومشربًا وبيئة وخلفية أثرت على طبيعته ورؤيته وتفسيره للأشياء، ناهيك عن أهواء لا ضابط لها.
ولن نجد السبيل الحق الذي فيه نجاتنا إلا حبل الله. وحبل الله هو كتابه المنزل، وكلامه المتلو، وقرآنه المسموع، وذكره المفهوم، ونوره المنزل، وآياته البيّنات المبيّنات. لا أفكار ولا مذاهب ولا آثار بشرية مُدَّعاة لسننٍ غير كتابه. نعم، القرآن وحده هو محل الاجتماع الوحيد الذي سيؤلف بين قلوب المؤمنين، ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال: 63]... سيؤلف فقط بين من أخلصوا الدين له، واجتمعوا على حبله وحده لا يشركون به شيئًا.
﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾
حين ننظر إلى نواة الجماعة المؤمنة في كل عصر، نرى فيها تجليًا باهرًا لهذه الآية العظيمة. إنها معجزة التأليف بين القلوب التي لا يقدر عليها إلا الله.
تأمل معي في فجر الإسلام الأول؛ لم تكن الجماعة التي التفّت حول النبي ﷺ نسيجًا واحدًا متجانسًا، بل كانت فسيفساء إنسانية بديعة، جمع الله فيها ما كان يستحيل على أي قوة أرضية أن تجمعه. كان فيهم صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي. كان فيهم السادة والموالي، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء. جاءوا من خلفيات شتى؛ فمنهم من كان على حنيفية إبراهيم، ومنهم من كانت له خلفية مسيحية أو صابئية، ومنهم من خرج من عباءة الشرك العربي. كيف لذات المنهج أن يصهر هذه المشارب المتباينة، وأن يصقل تلك النفوس المتفرقة، ليعضد أفرادها ويجعل منهم بنيانًا مرصوصًا، تتجلى فيه أسمى معاني التوالي والموالاة والتولي والاتساق؟
وهذه الآية الربانية، يا صديقي، ليست خاصة بذلك الجيل الأول، بل هي سنة جارية في كل من أقبل على الله بقلب سليم اليوم. إننا نرى هذه المعجزة تتكرر أمام أعيننا؛ فنجد قلوبًا تتآلف ورؤى تتوحد رغم أن أصحابها أتوا من كل فج عميق. يأتي أحدهم من خلفية علمانية، وآخر من سلفية متشددة، وثالث من إلحادٍ جاحد. تجد فيهم من كانت خلفيته شيعية أو سنية أو إباضية، ومنهم من كان أناركيًا (فوضويًا) أو ليبراليًا أو اشتراكيًا أو رأسماليًا، بل ومنهم من جاء من خلفية متصوفة أو إخوانية أو تبليغية أو جهادية أو تكفيرية أو قرآنية او حتى مسيحية أو يهودية
يستحيل على أي منطق أرضي أن يؤلف بين هذه النفوس المتباينة المشارب و المنابت و البيئات و الخلفيات. لكن الله وحده القادر على ذلك، لأنه ما أن ينخلع هؤلاء عن أثقال ما ورثوا، ويوكلوا أمورهم لله وحده، حتى يجد كل تيار منهم في هذا القرآن دواءه وشفاء صدره وجراحه. وهكذا، بإذن الله وحده، نجتمع.