عودة المسلمين لميقات رب العالمين

إلى من أوجه تلك الرسالة

هذه الرسالة أوجهها لكل إنسان، ليست موجهة فقط لمن ورثوا الكتاب. إن رسالتي موجهة لكل إنسان، كان عربيًا أو أعجميًا، كان ملحدًا أو لا أدريًا، علمانيًا أو سلفيًا، شيعيًا أم إباضيًا، بوذيًا أو مسيحيًا أو هندوسيًا أو حتى يهوديًا.
أولًا، لأني مررت بالكثير من تلك الأطوار في مسيرتي الفكرية، وأعرف أن في كل طائفة أو مذهب أيًا كان باحثين عن الحق تحت الركام. إنه ركام حجري قشري إذا ما أغشاه نور الإيمان... تفجر منه الماء أو تشقق فيخرج منه الماء أو هبط من خشية الله. وأعلم أن الهداية ليست بعيدة على أحد مهما ظهر من مظهر تظنه أنه أشر الأعمال وأبعد الأحوال وأضل الأفكار.
ثم إن دعوتنا يجب أن تستوعب الناس كافة، وتشهد على المذاهب والفرق كافة، لأن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت للناس كافة، ولأن هذه الأمة أُرسلت لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيدًا. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...).
ثم إن كان النبي دعوته مقصودة للناس كافة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فكيف ذلك والنبي لم يرتحل طوال حياته خارج جزيرة العرب ولم يتكلم إلا اللغة العربية ولا عاش إلا 23 عامًا بعد الرسالة؟ هذا يدل على أن أمته، لاسيما أتباعه المخلصين لله، عليهم هذا الواجب الكفائي من بعده صلى الله عليه وسلم لإيصال رسالته بكل لغات وألسنة العالم وفي كل البقاع وعلى كل العصور. قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
نعم، إن الدعوة مركزة لمن اصطفاهم الله بوراثة الكتاب لأنهم مكون رئيسي في نواة أي جماعة مؤمنة ولأن عليهم مسؤولية. ومن ورثوا الكتاب ليسوا شرطًا أن يكونوا من طائفة الأحبار والرهبان. إن أكثر فئة مرجحة لرفض رسالة الحق وأي رسالة حق هم طائفة من يعرفون الحق ويجحدونه حسدًا أو بغيًا أو ظلمًا أو طمعًا. فاليهود كانوا أهل كتاب وعلم لكنهم على ذلك كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا – (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) – ومن النصارى من كان منهم قسيسين ورهبان لا يستكبرون -فيهم صفة التواضع- فلما سمعوا ما نزل من الحق فاضت أعينهم من الدمع وآمنوا. فإن كان البلاغ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة مهمتنا ولكن الاستجابة ليست من اختصاصنا. كما أن الفئات التي قد تؤمن لا يمكننا حدها في طائفة معينة بل لا يمكننا توقعها. فهذا السامري –رجل ذو علم كتابي من أهل موسى– الذي أسس لفتنة الشرك وكان له علم بآثار دعوة الرسول فكان من أشر الناس، بينما سحرة فرعون وهم أعلى سلطة دينية لدى فرعون عدو موسى فقد قدر الله للإيمان أن يفيض من قلوبهم أنهارًا. فمفارقات أهل الإيمان وإقبالهم إلى الله أمر غيبي في علم وحكم الله. وإن مجرد كوننا ورثنا الكتاب فكان هذا كرمًا واصطفاءً من الله لنا، لكنه ليس معول النجاة في الدنيا والآخرة وحده كما سنرى.
وكذلك إن الدعوة تلك مقصود بها كل الناس من بسطائهم وأفرادهم العاديين، قبل مترفيهم ومتجبريهم. فالمترفون يُعرف عنهم أنهم أكثر الناس إصدافًا عن الحق. وسورة عبس وتولى خير مثال على منهجية الدعوة الحقة التي تهتم بالمخلصين فهم لُبّ البناء الحقيقي للفئة المؤمنة القادرة على الانتصار وإن لم يكونوا في وجهة نظر المجتمع من كبرائه ورموزه وعاليته ومترفيه وأعيانه. فكان رجل أعمى مقبل على الله خيرًا من ملء الأرض من عتل زنيم ذا مال وبنين.
أن تولد لأب وأم عربيين، تفهم اللغة العربية بالفطرة والسليقة وتستخدمها في التعرف على الكون والعالم والوجود، ثم إذا بوالديك أورثاك الكتاب يحفظانك آياته وترعرعت على قراءته كاملًا كل رمضان وصار جزءًا لا يتجزأ من حياتك وصلاتك وأيامك وجنازتك. نعم، هناك حاجز غليظ بيننا وبين القرآن لكنه يبقى حاجزًا معنويًا إذا برئ القلب من الشرك وتوجه لله وحده وخلّى بينه قلبه وعقله وكلام ربه، استنار فؤاده وحياته لا محالة.
لكن لتعلم أن تلك النعمة قد حُرم منها أناس كثيرون، ألا ترون الأعاجم حين يدب في قلوبهم الإيمان وتجتاح نفوسهم محبة الرحمن ينفقون كل غالي ونفيس ليتعلموا من العربية حرفًا وكلمة ويشدون الرحال إلى مكة في جامعة أم القرى أو المدينة المنورة أو الأزهر بالقاهرة، لينعموا بتعلم اللغة كأطفال صغار ويشاقوا حتى يحصلوها كأعاجم، محبة في القرآن والإيمان والإسلام. ولكنك أنت، الله أكرمك بأن كتابه المنزل الأخير ونبيه الخاتم محمد لغته نفس لغتك ومنطقه نفس منطقك، بل ورثت كتابه وصار جزءًا من حياتك. إنه اصطفاء ونعم الاصطفاء.
لكن هذا الاصطفاء القدري ليس كافيًا البتة للنجاة في الدنيا والآخرة.
تأمل المشهد واقرأ بتدبر:
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)﴾.
فمن أُورثوا الكتاب منهم ثلاثة أنواع:
• ظالم لنفسه: وهو أول صنف وأكثر صنف وأتعس صنف في الوجود. إنه كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. فهؤلاء حالهم يوم القيامة يُرثى له من حسرة وندامة، فقد كانت نجاتهم بين أيديهم ثم أعرضوا عنها. فهم وصفهم الله بأن ذلك النوع "كفور"، وهي صيغة مبالغة من الكفر. فهم ليسوا كفارًا، إنهم كفورون، كثيرو الكفر والإجرام. لذلك حين يصطرخون في العذاب الأبدي في نيران الحسرة والندامة والعذاب يقولون: يا ربنا ارجعنا وسنعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل. لاحظ أنهم لم يقولوا ارجعنا لنسلم أو لنؤمن أو لنصدق الرسل. لا، إن مشكلتهم لم تكن معرفتهم بالرسل وبرسالتهم ولا بإعلانهم النظري وشهادتهم الظاهرية بالإيمان، لكن لأنهم لم يعملوا صالحًا كما اقتضت أوامر تلك الرسالة. يقول الله لهم: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾.
• والصنف الثاني وهم المقتصدون: وهم قوم بين مرتبة الظالمين لأنفسهم وبين مرتبة السابقين بالخيرات. فقول الله "واقصد في مشيك" يعني ليس كالمتسكع المتباطئ الذي يمشي وكأنه لا غاية له، ولا مهرولًا مسرعًا كالمفزوع. فالاقتصاد هو الوقوف قصدًا لأمر محدد لا يسبقه ولا يتراخى عنه، نقطة التوازن، لا يقع في منطقة الظلم ولا يقع في منطقة الفضل والثناء، ليس في منطقة التراخي والتقاعص وليس في منطقة الاجتهاد والسبق. وفي الحقيقة، المقتصد في دينه لم يُمدح وكذلك لم يُتوعد. ولفظة الاقتصاد في العبودية لله لم تأتِ على سبيل المدح ولكن في سياق النجاة من الذم. فقد قال الله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾. فكما ترون، لم تمنع وجود أمة مقتصدة مصيبة الحكم بغير ما أنزل الله، ولم تمنع وجودها حقيقة عدم إقامة التوراة والإنجيل. لأن فعل ذلك وسط كثرة تسيء العمل يحتاج جهادًا ومدافعة، وهم كانوا لا يطيقون ذلك ويؤثرون السلامة ويقتصرون ويقتصدون بأنفسهم ولأنفسهم. ولم يمنع وجود تلك الأمة نكد الدنيا وحرمان البركات عن مجموع المجتمع الكتابي، وبالتالي حُرم المجتمع ككل، مقتصديه ومسيئيه، من الوفر المكتوب لأهل إقامة الكتاب. فالواقع أن أهل الكتاب لم تتحقق فيهم صفة إقامة الكتاب في أغلب أزمانهم، وبالتالي لم يحدث لهم الوفر ونعيم إقامة التوراة والإنجيل، فعانوا أشد المعاناة، وإن كان بقاء الأمة المقتصدة يوصف أنها ناجية بالكاد، ولكن كثيرًا من أهل الكتاب ساء ما يعملون. ولذلك قال الله تعالى عن حالة المقتصد أنه رغم فضل الله عليه الوافر بالحماية والنجاة، إلا أن سلوكه الاقتصاد في عبوديته لم يكن حق الشكرانية لله المستحقة. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾. وإن كان بعفو الله ناجٍ، إلا أنه ليس محمودًا كالسابق بالخيرات. قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.
• وهذه حقيقة يجب أن نفهمها: وجود المقتصدين في مجتمع أُورث الكتاب ليس كافيًا لإصلاح المجتمع، وإن كان الاقتصاد نفسه قد ينجي بعض أفراده المقتصدين. وسيظل الجميع معذبًا (مقتصد ومسيء) بمحق البركة وظهور الفساد بذنب الكثرة المسيئة الدافعة لنظام لا يُحكم فيه بما أنزل الله ولا يُقام فيه التوراة والإنجيل والقرآن حق الإقامة. لذلك تأتي الحاجة للفئة العظيمة والمفضلة والمكرمة الذين هم ثروة كل أمة: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.هذا الصنف هو الذي موعود بالنصر والثواب في الدنيا والآخرة.

سجل المراجعات