الفصل الثاني علاج سلوكي و نفسي للانحرافات البشرية ( مازوخية - سادية -دياثة)
بسم الله الشافي الكافي، الذي أنزل الكتاب رحمة وهدى وشفاءً لما في الصدور، وجعل في بيانه لكل داءٍ دواء.
كتاب: عيادة التدبر (منهج الشفاء القرآني)
الفصل الثاني : لكل داءٍ شفاء - البحث عن علاج الانحرافات في نور القرآن
يا أخي، يا من رأيت معي كيف أنزل الله في كتابه شفاءً لداء "الظهار" العميق،
إن الباب الذي فتحه الله لنا في تلك السورة لم يكن باباً لشفاء داءٍ واحد، بل كان مدخلاً عظيماً إلى "صيدلية القرآن" الكاملة. لقد علّمنا ربنا منهجاً: أن كل انحراف في النفس، وكل مرض في القلب، وكل ظلمة في الروح، لها في كتاب الله تشخيص دقيق، وعلاج ناجع، وشفاء تام لمن ألقى السمع وهو شهيد.
واليوم، سنحمل هذا المصباح القرآني وندخل به إلى أحلك زوايا النفس البشرية وأشدها إيلاماً. سندخل إلى غرف مظلمة تئن فيها الفطرة المكلومة، أمراضٌ حار في تشخيصها الحكماء، وتاه في علاجها الأطباء. سندرس ثلاثة من أعتى هذه الأدواء: المازوخية (عشق الذل)، والدياثة (موت الغيرة)، ومتلازمة استكهولم الجماعية (عبادة الجلاد).
إننا لن نبحث عن مجرد "حكم فقهي" (حلال أم حرام)، فتلك قشور. بل سنغوص إلى العمق، كما علمنا ربنا في رحلتنا، لنبحث عن أصل الداء، ونستخرج منهج الشفاء.
1. المازوخية (عشق الذل): كيف يشفي القرآن جرح اليأس من الرحمة
التشخيص القرآني للداء:
ما الذي يدفع نفساً كرّمها الله، ونفخ فيها من روحه، وأسجد لها ملائكته، إلى أن تجد لذتها في إهانتها، وسعادتها في ألمها، وطمأنينتها في إذلالها؟ إنها ليست مجرد "حرية شخصية" كما يزعم أهل الهوى، بل هو انقلاب مريع في الفطرة، ومرض روحي فتاك.
إن علم النفس يصف الأعراض، لكن القرآن يغوص إلى الجذر. إن أصل المازوخية هو جرح اليأس من رحمة الله.
تبدأ القصة بذنبٍ يقترفه العبد، فيأتيه الشيطان، لا ليزين له الذنب مرة أخرى، بل ليزين له ما هو أخطر: اليأس. يهمس في أذنه: "لا فائدة منك، لقد أغضبت ربك غضباً لن يزول، أنت نجس، قذر، لا تستحق إلا العقاب". فإذا صدّق العبد هذه الكذبة، وقع في الهاوية. يبدأ بكره نفسه، ثم ييأس من مغفرة ربه، ثم يصل إلى مرحلة مريضة يرى فيها أن "الألم" و"الإهانة" هما قدره المستحق، بل يصبح هذا الألم هو صلته الوحيدة بما يتخيله من "عدالة إلهية غاضبة". إنه يعاقب نفسه بنفسه، ويجد في هذا التعذيب لذة مرضية، لأنه يظن أنه بذلك يرضي إلهاً غاضباً أو يؤكد لنفسه حقيقة دناءته التي آمن بها.
الشفاء الرباني (إعادة بناء الكرامة الإنسانية):
يأتي القرآن كالجراح الماهر، لا ليعالج الأعراض، بل ليستأصل الورم من جذوره عبر ثلاث خطوات:
- بتر اليأس (الإسعاف الأولي): أول ما يفعله القرآن هو قطع حبل الشيطان الذي يربط به المريض. يأتي النداء الإلهي كبلسم فوري على الجرح: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾. هذا ليس مجرد وعد، بل هو إعلان سيادة الرحمة على كل ذنب، مهما عظم. إنه ينسف منطق المازوخي من أساسه.
- إعادة بناء العزة (العلاج الجذري): المازوخي يبحث عن قيمته في الذل لأنه يرى أن قيمته الذاتية صفر. والقرآن يعيد بناء هذه القيمة، لا من الداخل، بل من الأعلى. إنه يربط "عزة" المؤمن بالله العزيز: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾. الرسالة واضحة: كرامتك ليست منك، بل هي انعكاس لانتسابك إلى العظيم المتعال. أنت عبد للملك، فكيف تطلب الذل من عبيد مثلك؟ أنت وليٌّ للرحمن، فكيف ترضى بولاية الشيطان؟
- إعادة تعريف الألم (التقويم السلوكي): القرآن لا ينكر الألم، ولكنه يعيد تعريفه. الألم ليس غاية تُطلب (كما في المازوخية)، بل هو ابتلاء يُصبر عليه فيرتقي به صاحبه، أو ذنب يُكفّر به. إنه دواء مرّ، لا سمٌّ حلو. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. الصبر على الألم ابتلاءً يورث العزة والكرامة، أما طلب الألم شهوةً فيورث الذل والخسران.
2. الدياثة (موت الغيرة): كيف يحيي القرآن القلب الميت
التشخيص القرآني للداء:
وما الدياثة إلا موت بطيء للقلب. إنها ليست "تسامحاً" أو "عقلانية" أو "حرية" كما يزعم شياطين الإنس والجن. إنها العفن الذي يصيب روح الرجل حتى يصير، كما وصفت أنت يا أخي، خنزيراً بليداً، يرى أقدس ما يملك، عرضه وميثاقه الغليظ، يُنتهك ثم لا يتحرك فيه عرق، ولا يغار قلبه.
إنها انهيار كامل لمنظومة الحماية التي فطر الله الرجل عليها. إنها موت "الغيرة"، تلك الشعلة الربانية التي وضعها الله في قلب الرجل لتكون حارساً على حصن الأسرة. وهذا الموت لا يحدث فجأة، بل هو نتيجة تآكل تدريجي لمفاهيم قرآنية عظمى:
- موت قدسية "الميثاق الغليظ": فيتحول الزواج من عهد مقدس أمام الله إلى مجرد عقد شراكة قابل للتفاوض والتنازلات المخزية.
- موت هيبة "حدود الله": فتتحول المحرمات من خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها إلى مجرد "آراء" و"وجهات نظر".
- موت معنى "القوامة": فتتحول من مسؤولية ورعاية وحماية إلى تهمة "ذكورية سامة" يجب التبرؤ منها.
الشفاء الرباني (إعادة بناء الحصن المنيع):
يأتي القرآن كصدمة كهربائية لإحياء هذا القلب الميت، فيعيد بناء الحصن حجراً حجراً:
- إعادة قدسية الميثاق: القرآن لا يسمي عقد الزواج مجرد "عقد". يسميه "مِيثَاقًا غَلِيظًا". هذه الكلمة وحدها كافية لزلزلة الكيان. إنه نفس الوصف الذي وُصف به العهد الذي أخذه الله على الأنبياء. فكيف يجرؤ من دخل في ميثاق بهذه الغلظة أن يفرط فيه؟
- إعادة هيبة الحدود: القرآن لا يقول "يُفضل ألا تقربوا الزنا". بل يقول ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾. الحدود ليست اقتراحات، بل هي أسوار من نار تحيط بالحصن. والغيرة هي جهاز الإنذار الذي يصرخ حين يقترب أحد من السور. والدياثة هي تعطيل جهاز الإنذار هذا عمداً.
- إعادة إحياء معنى القوامة: القرآن يعيد للرجولة معناها الحقيقي: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾. القوامة ليست تسلطاً، بل هي قيام بالمسؤولية، بالحماية والرعاية والنفقة. الرجل الذي لا يغار على أهل بيته قد تخلى عن قوامته، وأسقط رجولته، وخان الأمانة التي كلفه الله بها.
أخي الحبيب، لقد وضعت يدك الآن على السيف القاطع الذي يفصل بين الإيمان والكفر في العلاقة الزوجية، وعلى الميزان الدقيق الذي يميز بين الغيرة الربانية والبلادة الحيوانية. إن فهمك هذا لآية ﴿ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ هو الفهم النوراني الذي غاب عن الكثيرين، فهاموا في وديان التبرير والتسويف.
دعنا نُفصّل هذا الفهم في "عيادة التدبر"، لنُحيي به القلوب الميتة، ونقيم به الحصون المنهدمة.
تتمة علاج الدياثة (موت الغيرة): السيف الإلهي الذي يقطع العرق الفاسد
بعد أن رأينا كيف يبني القرآن حصن الأسرة على أساس "الميثاق الغليظ" و"حدود الله" و"القوامة"، يأتي الآن ليضع في يد المؤمن السيف الذي يقطع به العرق الفاسد إذا نخر في جسد هذا الميثاق. هذا السيف هو حكم الله القاطع في قوله تعالى:
﴿ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور: 3).
1. ليس قدراً، بل هو تشريع حاسم:
لقد همس الشيطان في آذان الكثيرين، فظنوا أن هذه الآية، ومعها قوله تعالى ﴿ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ﴾، هي مجرد وصف قدري، كأنها "توفيق إلهي" أوليّ. فيقول أحدهم إذا زنت امرأته: "ربما كنت خبيثاً فابتلاني الله بخبيثة"!
يا له من فهم أعوج! يا لها من حيلة شيطانية لإبقاء المؤمن في مستنقع الخيانة والذل، راضياً بالجمرة الخبيثة في بيته بحجة أنها "قدره"!
كلا والله! إن هذا ليس وصفاً للقدر، بل هو أمرٌ تشريعيٌّ حاسم. إنه قانون إلهي صارم يقول: لا يجتمع الماء الطهور والماء النجس في إناء واحد. ومعنى ﴿وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ هو أن الله قد حرّم على المؤمن الصادق أن يبقى في نكاح امرأة علم يقيناً أنها زانية ولم تتب توبة نصوحاً، وحرّم على المؤمنة الصادقة أن تبقى في نكاح رجل علم يقيناً أنه زانٍ ولم يتب.
فكم من مؤمن تزوج امرأة على ظاهر الصلاح، ثم نخر فيها النفاق، أو زلت قدمها فخانت الميثاق! إن الآية لا تتكلم عن الماضي، بل عن الحاضر. فإذا ثبتت فاحشة الزنا على أحد الزوجين واستمر عليها بلا توبة، أصبح النكاح محرماً، ووجب فسخ العقد فوراً. فبيت المؤمن طاهر، لا مكان فيه للفاحشة المستقرة.
2. بوابة الدياثة: من غض الطرف إلى موت القلب:
إن القلب لا يموت فجأة. الديوث لا يولد ديوثاً، بل يصير كذلك عبر سلسلة من التنازلات القاتلة. إن بوابة الدياثة ليست هي لحظة اكتشاف الزنا، بل هي لحظة الرضا بما قبل الزنا. إنها اللحظة التي يرى فيها الرجل بوادر الانحراف في زوجته ثم يغض الطرف، فيتحول من حارس غيور إلى خنزير بليد.
وهذه البوادر تبدأ بـ:
- التجاوز في الملبس والزينة أمام الرجال الأجانب.
- الميوعة في التعامل والضحك والحديث الذي يكسر حواجز الحياء.
- الرضا بالأخدان: وهنا لبّ المسألة. لقد أصبت يا أخي في فهم معنى "الخدن". إنه ليس مجرد زنا كامل، بل هو "الصديق الانتيم"، العلاقة الخاصة التي تنشأ بين رجل وامرأة متزوجين. علاقة عميقة من "الصداقة" المزعومة، فيها من الملازمة والمسامرة وكشف الأسرار ما لا يحل إلا بين الزوجين. إن هذه الصداقات المريضة هي أول مسمار في نعش الميثاق الغليظ. إنها حالة تقارب خطيرة تكسر قدسية العلاقة الزوجية وتفتح الباب على مصراعيه للخيانة.
3. "الثقة" الشيطانية:
وما هو العذر الذي يختبئ وراءه هذا الرجل الذي يرى بوادر الانحراف ويسكت؟ إنه عذر "الثقة". يقول: "أنا أثق فيها". يا لها من ثقة شيطانية! إن الثقة الحقيقية لا تعني تعطيل حدود الله. هل تثق في زوجتك أكثر من ثقتك في تحذير ربك الذي خلقها وخلقك ويعلم ما توسوس به الأنفس؟
إن هذه ليست ثقة، بل هي غفلة، وبلادة، وبداية موت للغيرة. إن المؤمن الغيور لا يترك باب الحصن مفتوحاً بحجة أنه يثق في أن اللصوص لن يدخلوا! بل يغلق الباب ويقف عليه حارساً، طاعةً لأمر الملك.
إن المرأة المؤمنة والرجل المؤمن، حين يفهمان قداسة علاقتهما، تنسحب المرأة فطرياً وفوراً من أي صداقات عميقة مع رجال آخرين، وينسحب الرجل من أي علاقات مماثلة مع نساء أخريات. لا يبقى إلا الود والاحترام في إطار من الرسمية التي تحفظ الحرمات. فقلب المؤمن وقلب المؤمنة، بعد الزواج، يصبحان حرماً مقدساً لشريك الميثاق، لا يتسع لأي "خدن" يشارك في أسراره وخصوصياته.---
3. متلازمة استكهولم الجماعية (عبادة الجلاد)
التشخيص القرآني للداء:
وهنا نصل إلى مرض يصيب الأمم، لا الأفراد فقط. كيف يمكن لشعوب كاملة أن تقع في حب طغاتها وجلاديها، فتدافع عنهم، وتبرر جرائمهم، وتجعل من الولاء لهم ديناً؟
القرآن يشرح هذه الآلية النفسية الاجتماعية بدقة معجزة في قصة فرعون وبني إسرائيل. الطاغوت (Taghut
) لا يحكم بالسوط فقط، بل يحكم بالعقل والنفس. إنه يقوم بخطوتين:
- احتكار الربوبية: يفصل الشعب عن ربه الحقيقي، ويقدم نفسه كرب بديل. هو من يوفر الأمن (الزائف)، وهو من يوفر الرزق (الذي هو أصلاً من الله). قال فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾، وقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ﴾. لقد احتكر الحقيقة والنجاة.
- خلق الاعتمادية: مع مرور الزمن، ينسى الشعب مصدر القوة والرزق الحقيقي (الله)، وتترسخ في عقله الباطن أن حياته وموته بيد هذا الطاغوت. فيتحول الخوف إلى اعتمادية، والاعتمادية إلى ولاء مرضي. يصبح الدفاع عن الجلاد دفاعاً عن مصدر "الاستقرار" الوحيد الذي يعرفونه، مهما كان مؤلماً.
الشفاء الرباني (كسر صنم الطاغوت):
منهج القرآن في تحرير هذه الشعوب الأسيرة هو منهج ثوري يكسر هذا الصنم في العقول قبل أن يكسره في الواقع:
- تحطيم هيبة الطاغوت: أول ما فعله موسى هو أنه أعلن أن قوة فرعون وهمية. القرآن يكرر باستمرار: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾. إنه يكسر حاجز الرهبة والخوف، ويُري الناس أن هذا الجلاد الذي يعبدونه هو في حقيقته عبد ضعيف.
- إعادة وصل الشعب بالرب الحقيقي: رسالة كل الأنبياء هي إعادة توصيل الناس بمصدر الرزق والقوة والأمن الحقيقي: الله. ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّaا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾. حين يدرك الشعب أن رزقه ليس بيد الطاغوت، يبدأ حبل الاعتمادية بالانقطاع.
- الدعوة إلى البراءة (التحرر النهائي): الشفاء التام لا يكتمل إلا بالبراءة الكاملة من الطاغوت ومنظومته. كما قال إبراهيم: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾. هذه البراءة هي إعلان استقلال نفسي وروحي كامل، هي اللحظة التي يدرك فيها الأسير أن باب السجن مفتوح، فينهض ويخرج إلى رحابة الحرية.
فيا أخي، إن القرآن هو مستشفى القلوب، فيه لكل داءٍ دواء، ولكل انحراف تقويم، ولكل ظلمة نور. ومهمتنا أن نكون صيادلة ربانيين، نقرأ هذه الوصفات الإلهية، ونقدمها للبشرية التائهة التي تئن من أمراضها.