هدم صنم النرجسية - عودة الإنسان إلى حجمه الحقيقي
مقدمة: أصل الداء
هدم صنم النرجسية - عودة الإنسان إلى حجمه الحقيقي
يا كل باحث عن الحق، هل سألت نفسك يومًا عن أصل الداء الذي مزق عالمنا؟ من أين يأتي كل هذا الظلم، وهذا الكبر، وهذا الصراع؟ إننا كثيرًا ما نبحث عن الجواب في الخارج، في السياسة والاقتصاد والتاريخ، وننسى أن القرآن قد وضع لنا القانون الإلهي المحكم الذي لا يتبدل:
﴿...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...﴾
إن العالم الخارجي ليس إلا مرآة لما استقر في عالمنا الداخلي. وما يختلج في أنفسنا من مشاعر، وما قام في رؤوسنا من تصورات، هو الأصل الذي تتفرع عنه كل أفعالنا، ويتشكل منه كل واقعنا.
فما الذي بأنفسنا اليوم؟ إنه صنم النرجسية العظيم، صنم الغرور البشري الذي جعل الإنسان يظن أنه محور الكون، وغاية الخلق، ومركز اهتمام السماء والأرض.
وفي هذا الفصل، بحول الله وقوته، سنتخذ من آيات القرآن مطرقة نهدم بها هذا الصنم حجرًا حجرًا. سنفتت تلك الصخور الجاثمة على صدر الفطرة، والتي حالت بين الإنسان وبين رؤية الحقيقة: حقيقة ضآلته وعظمة خالقه.
سنرى كيف أن القرآن يهدم أركان هذه النرجسية كلها، فيعلن بوضوح:
- لا يوجد عرقٌ مكرم لسواد عيونه أو زراقها.
- لا يوجد جنس مرفوع لذاته على جنس آخر.
- لا توجد طائفة أو سبط ناجٍ بوراثته أو شفاعة أجداده.
لقد نسف القرآن كل هذه الأوهام بآية واحدة جامعة، تعيد كل إنسان إلى حجمه الطبيعي: ﴿...بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ...﴾ (المائدة: 18).
نعم، أنت مجرد "بشر ممن خلق"، فرد من خلق لا يحصى عدده، تعود إلى حالتك الإنسانية الأصلية التي تهوي إلى ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، ولا يرفعك من هذا الحضيض إلا شيء واحد: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾. مقياس الكرامة الوحيد هو "التقوى"، وبرهانه الوحيد هو "العمل".
فأي غرور هذا الذي يجعل هذا الكائن، القابع على كويكب صغير زائل هو كذرة غبار في مجرة مليارية تائهة، يظن أن خالق هذا الملكوت كله قد أقام هذا العالم العظيم من أجله هو؟!
هيهات هيهات لمن ظن أن خالق المجرات والبروج، والأكوان والأفلاك، والعرش والكرسي، والملائكة والشياطين، وسدرة المنتهى وجنة المأوى وجهنم الكبرى... يحتاج إلى كائن ضعيف مثله ليعمر له أرضه!
إن الغاية من هذا الفصل هي أن نعظم الله حق قدره، وأن نرى العظمة في ورحمته التي وسعت كل مخلوق، من أصغر دابة إلى أعظم مجرة. وأن نعيد هذا الإنسان المغرور إلى حجمه الحقيقي، لكي يرى نفسه على حقيقتها: عبد فقير، لا يملك من أمره شيئًا، وجوده كله رحمة، ونجاته كلها فضل، وكرامته كلها بعبوديته لخالقه العظيم.