الفصل الثالث: لغز الملكة العقيم - بصيرة قرآنية تحل لغز "نفرتاري"
أخي في الله القاريء
نواصل السير في الأرض بنور الله، لندخل في هذا الفصل إلى واحد من أغمض الأماكن وأكثرها أهمية: بيت فرعون نفسه. إننا ننتقل من تحليل آثار الدولة العسكرية والسياسية إلى تحليل الدراما الإنسانية التي دارت في قلب القصر، وهي الدراما التي كانت السبب المباشر في نجاة نبي الله موسى. سنرى كيف أن لغزًا أثريًا حيّر العلماء، تكشفه آية واحدة من كتاب الله، فتتحول الحجارة الصماء إلى شاهد ناطق بالحق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثالث
لـغـز الـمـلـكـة الـعـقـيـم: بـصـيـرة قـرآنـيـة تـحـل لـغـز "نـفـرتـاري"
إن التاريخ لا تصنعه الجيوش والسياسات الكبرى فحسب، بل كثيرًا ما تصنعه رغبات وأحزان وآمال تسكن صدور البشر في قصور الحكم. وبعد أن رأينا الآثار العامة لكارثة الخروج في جسد الإمبراطورية المصرية، ندخل الآن من أبواب العلم لننظر في الأثر الخاص الذي تركه هذا الصراع داخل بيت فرعون، وهو أثر يتمحور حول شخصية غامضة ومؤثرة: "امرأة فرعون".
إننا سنعرض في هذا الفصل لغزًا أثريًا حقيقيًا يتعلق بأقوى ملكات مصر، ثم سنضع بجانبه آية من كتاب الله، لنرى كيف ينطبق النص القرآني على اللغز التاريخي كانطباق المفتاح على القفل، فيكشف لنا عن تطابق مذهل بين الشخصيات والأحداث.
المحور الأول: اللغز الأثري - عظمة نفرتاري وفراغ العرش
حين يتحدث علم المصريات عن عهد رمسيس الثاني، لا يمكنه تجاهل الحضور الطاغي لزوجته الملكية العظمى، "نفرتاري مريت إن موت" (جميلة الجميلات محبوبة الإلهة موت). لم تكن نفرتاري مجرد زوجة، بل كانت ظاهرة فريدة في تاريخ مصر، وتخبرنا الآثار الصامتة عن مكانتها بحقائق لا تقبل الجدال:
مكانة شبه إلهية: تظهر نفرتاري في النقوش بحجم مساوٍ لزوجها الملك، وهو أمر نادر جدًا لا يُمنح إلا لشخصية ذات مكانة استثنائية تقترب من مكانة الفرعون نفسه. منحها رمسيس ألقابًا فريدة، ونقش اسمها بجواره في كل مكان كشريكة في العظمة والمجد.
معبدها الخاص في أبو سمبل: في أعظم مشاريعه، معبد أبو سمبل، بنى رمسيس الثاني معبدًا أصغر بجوار معبده، لم يخصصه لإله، بل خصصه لمحبوبته نفرتاري. ونقش على واجهته عبارته الخالدة: "هي التي من أجلها تشرق الشمس"، في إعلان حب وتكريم لا مثيل له.
مقبرتها الأسطورية (QV66): تُعتبر مقبرتها في وادي الملكات بالإجماع هي أروع وأجمل مقبرة في مصر كلها. إن دقة رسومها وجمال ألوانها التي بقيت زاهية لثلاثة آلاف عام تدل على حجم الموارد والحب الذي كُرّس لتخليد ذكراها.
كل هذه الأدلة الأثرية تصرخ بحقيقة واحدة: كانت نفرتاري هي المرأة الأقوى والأغلى والأهم في حياة رمسيس الثاني. وهنا يظهر اللغز التاريخي الذي حيّر العلماء. فوفقًا لكل منطق سياسي، يجب أن يكون وريث العرش هو ابن هذه الملكة الجبارة. ولكن السجل التاريخي يخبرنا بعكس ذلك تمامًا:
الوريث من الزوجة الثانية: الملك الذي خلف رمسيس الثاني بعد حكمه الطويل هو ابنه "مرنبتاح". ووالدة مرنبتاح لم تكن نفرتاري، بل كانت الزوجة الملكية الأخرى "إيزيس نوفرت"، التي لا تظهر في الآثار إلا بشكل باهت ومحدود مقارنة بغريمتها نفرتاري.
غياب أبناء نفرتاري عن الحكم: رغم أن النقوش تذكر أن نفرتاري أنجبت أبناء، إلا أنهم جميعًا إما ماتوا صغارًا قبل أبيهم، أو كانوا أبناء بالتبني لا حق لهم في وراثة العرش.
هنا يقف علم الآثار حائرًا. كيف يمكن لملكة بهذه العظمة والقوة والنفوذ أن تفشل في تأمين العرش لنسلها؟ لماذا يذهب الحكم إلى ابن غريمتها الأقل شأنًا؟ إنه فراغ كبير في السردية التاريخية، لغز لا تملك الحجارة إجابة عليه.
المحور الثاني: المفتاح القرآني - مشروع "أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"
حيث يقف علم الآثار صامتًا، ينطق القرآن بالحق ليكشف السر. إن الله سبحانه وتعالى لا يقص علينا قصة امرأة فرعون كقصة عاطفية مجردة، بل يسجل لنا كلماتها بدقة، وهي كلمات تكشف عن مشروع سياسي ونفسي عميق. يقول تعالى:وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (القصص: 9).
دعنا نحلل هذا الاقتراح ليس كرجاء عابر، بل كخطة محكمة من ملكة تعرف كيف تخاطب زوجها الملك:
قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ: إنها لا تقول "هو قرة عين لي"، بل تجعل الأمر مشروعًا مشتركًا ومصلحة للطرفين. إنها تخاطب فيه "الملك" لا "الزوج" فقط.
عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا: هذه لغة المصالح والسياسة. إنها تعرض الطفل كمشروع استثماري قد يأتي "بالنفع" على الأسرة الحاكمة. وأي نفع أكبر من تأمين وريث للعرش؟
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا: وهنا يكمن المفتاح الذي يحل اللغز كله. إنها لا تقترح كفالته كعمل خيري، بل تقترح تبنيه رسميًا ليكون "ولدًا" لهما. إنها أمنية امرأة تتوق إلى ابن، ليس فقط ليملأ فراغها العاطفي، بل ليملأ فراغًا سياسيًا خطيرًا في خط الخلافة.
فجأة، تتحد الصورة. اللغز الأثري لـ "نفرتاري"، الملكة القوية التي لم يرث ابنها الحكم، ينطبق تمامًا على الحالة النفسية والسياسية لـ "امرأة فرعون" التي يقدمها القرآن، والتي كان مشروعها الأكبر هو أن "تتخذ ولدًا". إن النص القرآني يقدم لنا الدافع والنية التي تفسر الفراغ الموجود في السجل الأثري.
المحور الثالث: تطابق الشخصيات - فرعون هو رمسيس وامرأته هي نفرتاري
والآن، نجمع خيوط الأدلة لنصل إلى نتيجة واضحة. إننا أمام تطابق مذهل في "البصمات" التاريخية والشخصية:
بصمة فرعون تتطابق مع رمسيس الثاني: هو الملك الذي حكم طويلاً في عصر القوة المطلقة. هو صاحب مشاريع البناء العملاقة التي تطلبت نظام السخرة. هو الذي خلفه "مرنبتاح" صاحب اللوحة التي تذكر "إسرائيل". هو الذي تحمل مومياؤه آثار الموت غرقًا.
بصمة امرأة فرعون تتطابق مع نفرتاري: هي الملكة الوحيدة في تاريخ الدولة الحديثة التي جمعت بين القوة المطلقة، والحب الأسطوري من زوجها الملك، وفي نفس الوقت، اللغز المحير حول عدم وصول أبنائها إلى العرش. إنها الحالة الوحيدة التي يكون فيها مشروع "تبني وريث" منطقيًا وضروريًا.
إن هذا ليس دليلاً واحدًا، بل هو ما يسميه العلماء "التوافق" (Consilience)، أي التقاء خطوط متعددة ومستقلة من الأدلة (الأثرية، والنصية، والمنطقية، والنفسية) لترسم صورة واحدة متماسكة.
الخلاصة:إن قصة امرأة فرعون وهي تلتقط تابوت موسى من اليم لم تكن مجرد لحظة عطف إنساني، بل كانت لحظة تقاطع فيها القدر الإلهي مع واقع سياسي ونفسي معقد داخل القصر. إن اللغز الأثري للملكة القوية التي لم تنجب وريثًا للعرش، والذي حير المؤرخين، لم يكن لغزًا، بل كان هو المسرح الذي هيأه الله ليضع فيه نبيه وكليمه موسى في حجر عدوه، ليكون له عَدُوًّا وَحَزَنًا. وهكذا، مرة أخرى، يثبت القرآن أنه ليس مجرد كتاب هداية، بل هو أيضًا النور الذي يكشف أسرار التاريخ.