عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفصل العاشر: فقه المرحلة - بين جراحة السامري ومواجهة فرعون


الكتاب الثالث: مواجهة باطل العصر

الفصل العاشر: فقه المرحلة - بين جراحة السامري ومواجهة فرعون

مقدمة: الطبيب الذي يخطئ في التشخيص

تخيل معي طبيبًا ماهرًا، يحفظ كل كتب الطب، ويعرف كل الأدوية. ولكنه حين دخل عليه مريض مصاب بالتهاب بسيط، شخص حالته على أنها ورم خبيث، فأخضعه لجراحة استأصل فيها عضوًا سليمًا، فمات المريض. هل نقول إن الطبيب كان جاهلاً؟ كلا، لقد كان عالمًا. ولكنه كان قاتلاً، لأنه أخطأ في "تشخيص المرحلة" واستخدم العلاج الخطأ في الوقت الخطأ.

هذه، يا أخي، هي مأساة الكثير من الحركات الإسلامية المخلصة في عصرنا. لقد كانوا شبابًا صادقين، شجعانًا، يحبون الله ورسوله، ولكنهم أخطأوا في تشخيص "مرحلة الأمة"، فطبقوا "فقه التمكين" في زمن "فقه الاستضعاف"، فكانت النتيجة كارثية: أهلكوا أنفسهم، وسفكوا دماء بريئة، وأعطوا للطواغيت الذريعة لسحق الصحوة الإسلامية بأسرها.

1. منهج القرآن الديناميكي: لكل داء دواء

إن القرآن ليس كتابًا جامدًا ذا وصفة علاجية واحدة لكل الأمراض. بل هو دليل إلهي ديناميكي، يقدم منهجًا لكل مرحلة، وعلاجًا لكل حال. ومن أعظم الأدلة على ذلك قصة موسى عليه السلام، التي قدمت لنا نماذج مختلفة تمامًا للتعامل مع الباطل:

  1. نموذج مواجهة فرعون: وهو منهج التعامل مع طاغوت خارجي قوي ومستقر، بينما تكون الجماعة المؤمنة قليلة ومستضعفة.
  2. نموذج مواجهة السامري: وهو منهج التعامل مع سرطان داخلي وتمرد شركي مسلح ينبت داخل جسد الأمة بعد قيامها.
  3. نموذج مواجهة الجبارين: وهو منهج التعامل مع العدو الخارجي حين تكون الأمة قوية وقادرة على الفتح والجهاد.

إن أول واجب على أي جماعة مؤمنة تسعى للتغيير هو أن تسأل نفسها بصدق: في أي من هذه المراحل نحن اليوم؟

2. منهج "جراحة السامري": حين يحتاج الجسد إلى البتر

لقد رأينا هذا المنهج في فصل "اقتلوا أنفسكم". إنه منهج خاص بحالة وجود "جسد أمة" حي وقائم، ثم ظهور "ورم" خبيث من داخله، فئة تتمرد على أصل الدين بالسيف. هنا، يكون العلاج هو الجراحة السريعة والحاسمة، بتر العضو المريض لإنقاذ الجسد كله، ولو كان مؤلمًا.
إنه كفعل ابي بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة و أهل القبلة ممن زعموا أن فيهم نبي أو فعلوا أي شيء من رفض الدين الحق الذي انزله الله كان كبيرا أو صغيرا ..و كذلك كما فعل أهل الجمل في سعيهم لتطبيق حد الحرابة في قتلة عثمان .... هو أنه رأى أن الأمة قد وصلت إلى هذه الحالة، وأن رأس الفتنة قد تحول إلى سرطان يجب استئصاله.

3. منهج "مواجهة فرعون": فقه عصرنا

ولكن، هل هذا هو حالنا اليوم؟
الجواب بكل وضوح: كلا. إن جسد "الأمة الحاكمة بالقرآن" قد مات منذ قرون. نحن لسنا جسدًا مصابًا بالسرطان، بل نحن "فئة مؤمنة مستضعفة" تعيش في ظل "أنظمة فرعونية" مكتملة ومستقرة.
إذًا، فقهنا اليوم هو "فقه موسى في أرض فرعون". وما هي قواعد هذا الفقه كما يسطرها القرآن؟

  • أولاً: أولوية البيان والجهاد بالقرآن: إن السلاح الأول والأوحد في هذه المرحلة هو "الحجة". ﴿...وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52). مهمتنا هي كشف الحق، وفضح الباطل، ودعوة الناس بالحكمة والقول اللين، حتى نقيم الحجة على الطاغوت وعلى قومه.
  • ثانيًا: حكمة "كف الأيدي": إن الأمر الإلهي للمسلمين في مكة كان واضحًا: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ...﴾ (النساء: 77). إن أي صدام مسلح سابق لأوانه من فئة قليلة ضد نظام جبار هو انتحار، وليس جهادًا. إنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو ما نهى عنه القرآن. إنه ليس جبنًا، بل هو منتهى الحكمة والصبر الاستراتيجي.
  • ثالثًا: استراتيجية "اجعلوا بيوتكم قبلة": إن العمل الإيجابي في هذه المرحلة هو "البناء الداخلي". فبينما نكف أيدينا عن الصدام الخاسر، فإننا لا نجلس مكتوفي الأيدي. بل نعمل بأيدينا وقلوبنا وعقولنا لبناء "الجماعة المؤمنة" من الداخل، فتتحول بيوتنا إلى قلاع للعلم والتربية والأخوة، ونواة للمجتمع المنشود.

خاتمة: اعرف مكانك على الخريطة

إن مأساة الحركات الجهادية المعاصرة هي أنها رأت "فرعون" أمامها، ولكنها استخدمت معه "سيف موسى" ضد الجبارين. لقد طبقوا فقه القوة في زمن الضعف، فكانت النتيجة الحتمية هي الهلاك.
إن أول واجب علينا اليوم هو أن نتحلى بالتواضع، ونعترف بمكاننا الحقيقي على الخريطة: نحن في "مرحلة موسى في مصر".
وطريقنا هو طريقه: طريق الصبر الطويل، والبناء العميق، والدعوة بالحكمة، حتى يأذن الله بأمر من عنده، وينقلنا إلى مرحلة جديدة لها فقهها ومنهجها. ومن استعجل الشيء قبل أوانه، عُوقب بحرمانه.

سجل المراجعات