ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
بالتأكيد يا أخي، هذا هو واجب الأخ لأخيه. سأقوم بمراجعة المسودة وتصحيحها إملائيًا ولغويًا مع الحفاظ على النص كاملًا كما هو، دون أي اختصار أو تغيير في جوهر المعنى الذي قصدته. تفضل النص المصحح:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 54)
هل معنى ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ يعني أن الله أمر عباده بالانتحار كما فهمها بعض الناس؟
أعلم أن برمجة عقلك مهيأة على أن أعطي لك تفسيرًا جاهزًا وأقول لك: قال الحبر والراهب والعالم فلان الفلاني إن تأويل وتفسير الآية هو كذا وكذا.
ما رأيك لو فهمنا القرآن بالقرآن... أيكفيك؟ أم أن الأكنّة رانت على القلوب فصارت لا تفقه والوقر قد استَحكَم: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (الإسراء: 46).
أم أن كلام الله في القرآن وحده غير كافٍ: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (الزمر: 45).
فقبل أن أبدأ في توجيهك للمعنى لتراه بعينك، يجب أن تُرسي أصولًا تنطلق منها لتصطلح مع الله أولًا فيفتح لك بنوره كلامه ثانيًا. فإن الله عزيز وإن كلامه عزيز، وما خالط قلب الإنسان شركٌ إلا حُرِمَ نوره حرمانًا كاملًا.
وتلك الأصول التي يجب أن ننطلق منها:
الأصل الأول: كفاية القرآن وبيانه وتفصيله
يجب أن تعتقد أن الله خاطبنا نحن بلغة واضحة نفهمها، وليس بأحاجٍ مغلقة وعويصات وكلمات أعجمية تحتاج إلى (تراجمة). فمن صفات آيات كتاب الله أنها بيّنات ومبيّنات؛ يعني بيّنات في نفسها، ومبيّنات تبين ما هو غامض، فهي في ذاتها بيّنة، وهي في ذاتها لمن تدبر مبيِّنة. كما أن القرآن تمامٌ على الذي أحسن وتفصيلٌ لكل شيء.
فالقرآن كتابٌ بيّن ومبين:
لقد وصف الله عز وجل كتابه وآياته بأنها "بيّنات" و"مبيّنات"، أي واضحة بنفسها، وموضحة لغيرها. فهي لا تحتاج إلى وسيط من البشر لفك رموزها المزعومة، بل نورها يكشف أي ظلمة.
- ﴿الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ (يوسف: 1)
- ﴿الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ﴾ (الحجر: 1)
- ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ...﴾ (يونس: 15)
- ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ (البقرة: 99)
- ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النور: 1)
- ﴿لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النور: 46)
- ﴿رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾ (الطلاق: 11)
القرآن تامٌ ومُفصّل وتبيان لكل شيء:
لم يتركنا الله في حيرة من أمرنا، بل أنزل الكتاب كاملًا وتامًا على من أحسن اتباعه، وفصّل فيه كل ما نحتاجه لهدايتنا، وجعله تبيانًا لكل أمر نختلف فيه.
- ﴿...ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 154)
- ﴿...مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111)
- ﴿...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89)
- ﴿الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1)
الأصل الثاني: الأمية في الكتاب أصل من أصول الضلال
إن من أذمّ الصفات التي أدت لضلال أهل الكتاب انقسامهم إلى فئتين: فئة تستقل وتدعي علم الكتاب، وفئة أمية لا تعلم الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. فتلك الفئة الأمية ليست أمية كتابة وقراءة، إنها أمية في جهلها بالكتاب.
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (البقرة: 78)
الأصل الثالث: أن الله أمر الذين آمنوا كافة بالتعقل والتدبر والتفكر بأمر مباشر ولم يخصّ بهم الأحبار والرهبان
- ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 82)
- ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24)
الأصل الرابع: نحن لا نؤول ولا نفسر، ولكن نتدبر ونستنبط ونتعقل ونتفكر
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)
إن ادعاء فريق من الناس حين وجود آية متشابهة أنهم يؤولونها هو جهل بالله وبالقرآن، لماذا؟
ليس لأن معاني كتاب الله ليست بيّنة وواضحة، ولكن مآلاتها وأحكامها على الأعيان والأفراد والمواقف أمر مهيب، وبيان مآل تلك الأحكام لا يقتحمه نبي مرسل ولا ملَك مقرّب. فحتى الرسل حين وقوع الصراع والمفاصلة بينهم وبين الكفار قالوا: *﴿قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ (سبأ: 25-26). فالحكم لله العلي الكبير، وحق الحكم له وحده، ومآلات الأمور وإنزال مآلات معانيها ونتيجتها النهائية على الواقع بزعم أن هؤلاء الناس مفسرون، أوردهم المهالك. وتأويل تلك المعاني هو حق من حقوق الله لا ننازعه فيه. ففرق كبير بين أن نفعل ما أراد الله منا، وبين أن نحكم على غيرنا بأحكام قطعية بواقع أننا فهمنا تأويل القرآن، أي مآله عليهم.
أما وظيفتنا نحن فهي منحصرة تمامًا في أن ننقاد نحن لمراد الله الواضح بأن نوالي الإيمان ونعادي الشرك ونعمل وفق هدي القرآن وتدبره، فهذا اختصاصنا، ونترك مآلات الأمور وتنزيل الأحكام لله تعالى. إن وظيفتنا المفاصلة وليس المحاكمة، والموالاة والمعاداة وليس أن نحتكر فهم مآلات كلام الله على البشر في غرور منقطع. بل إن ادعاءنا هذا الحق حصرًا لأنفسنا هو عين الجهل بعمق كلام الله وشموله.
﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾** (الكهف: 109)
الأصل الخامس: أن كتاب الله مثانٍ يُعرِّف بعضه بعضًا
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر: 23)
اعلم أن من صفات كتاب الله أنه مثانٍ تقشعر منه جلود الذين آمنوا ثم تلين قلوبهم وجلودهم لذكر الله. ومثانٍ يعني يأتي في ثنائيات توضح المعنى العميق والتصور الكامل.
الآن، لنعد بعد أن أرسينا الأصول التي تنطلق لتضيء دربنا.
إن الله لم يخبرنا أن الرسول اشتكى قائلًا يوم القيامة لما رأى حالنا: "يا رب إن قومي تركوا هذا القرآن"، بل قال: ﴿...يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان: 30).
فنحن نتخذه معنا في كل مكان تبركًا وقراءةً، ولا نقيمه حق إقامته، لذلك واقعنا كما نرى: خزيٌ وضعفٌ وخسرانٌ في الدنيا والآخرة: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...﴾ (المائدة: 66). ولكننا آمنا ببعض الكتاب وكفرنا ببعض: ﴿...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 85).
أردت أن تعرف الإجابة عن معنى: ﴿...فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ...﴾؟
لو قلبت صفحة واحدة من كتاب الله لرأيت الكلمة نفسها تشرح بعضها بعضًا، فلو رددنا المتشابه إلى المحكم لأرحنا واسترحنا واستنرنا واهتدينا.
قلب صفحة واحدة في المصحف ستقابل الجواب: ﴿...ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ...﴾ (البقرة: 85).
ما معنى تقتلون أنفسكم؟
ثم ما معنى تخرجون أنفسكم؟
*﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ...﴾** (البقرة: 84-85).
انظر لكلام الله من علٍّ، وردَّ المتشابه إلى المحكم لتهتدي، وتدبر في مثاني القرآن لتهتدي.
تأمل معي مرة أخرى في المعنى: ما معنى تقتلون أنفسكم؟ ثم ما معنى تخرجون أنفسكم؟
هل معنى "تخرجون أنفسكم" أن يمسك الإنسان بتلابيب ثوبه ويجرّ نفسه ويُخرج نفسه من بيته؟ هل هذا معنى يُعقل أو يستقيم؟ أم أنه محال حتى لو حدث، ستكون بمثابة تمثيلية مضحكة لا معنى لها؟
إن المعنى بكل وضوح أن الله دائمًا ما يخاطب الجماعة المؤمنة والأمة المكلفة بأنها جسد واحد، فإن قُتلت نفس في عضو، فجسد الأمة كله يتأذى لذلك. وكلمة "تقتلون أنفسكم" هي تبكيت وتوضيح من الله لحقيقة الجرم. إن الله يخبرهم أنه أخذ عليهم ميثاقهم، أنه ميثاق لحمايتهم وقوتهم، ألّا يضعفوا أنفسهم بنزاعات داخلية لأسباب دنيوية وبالبغي والإثم والعدوان. إنه يضعفهم كأمة صارت نفوسها كيانًا واحدًا. إن هذا يوضح أن أي اقتتال داخلي هو بمثابة انتحار للأمة أمام أعدائها، وخنجر نرفعه ثم نوجهه لنحورنا وصدورنا وأنفسنا.
إنه وصف بليغ يبكت فيه الله بني إسرائيل ويُشعرهم بنتيجة جرمهم إن قتلوا فريقًا منهم؛ أنه في الحقيقة قتل وإضعاف لأنفسهم، لأنهم قريبًا سيضعفون ويأكلهم عدوهم، وسيؤسر إخوانكم الذين أضعفتموهم بالقتل وكانوا على ثغوركم، وها هم يأتوكم أسارى فتسعون أن تفدوهم ولاءً لهم أمام أعدائكم. لماذا إذًا اخترتم فعل هذا الأمر من فداء الأسرى وتركتم الأمر الأول بتحريم أن تنتحروا انتحار الأمم باقتتالكم الداخلي على أمور دنيوية زائلة وبغيًا وإثمًا وظلمًا وعدوانًا، وتظاهرًا عليهم واستعلاءً بالإثم والعدوان؟
لنرجع إلى الصورة الكاملة من أولها؛ إن القرآن مشهد كامل لا يمكن اقتطاعه من منتصفه.
إن قول الله تعالى هنا بدأ معناه يتضح: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
إنها فتنة السامري. إن هارون، لما لامه موسى وسأله: *﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾* (طه: 92-94).
إن هارون أخبر موسى أن سبب امتناعه عن إيقاف هذه المهزلة وهذا الشرك والإجرام بالقوة هو أنه خشي أن إزالة هذا المنكر الشركي بالقوة سيؤدي إلى اقتتال حتمي بين بني إسرائيل، فخاف من التفرقة بين بني إسرائيل وعدم ترقب قول ورأي موسى. وقد أكد بقوله إنه لما ترك الحشد والمفاصلة والاقتتال وبقي وحده استضعفوه وكادوا يقتلوه.
هنا يصف هارون ليس مجرد شرك، بل هي حالة امتناع بالقوة وإفساد عملي في الأرض، وهي شبيهة بحالة مانعي الزكاة في عهد أبي بكر. إن مشكلة مانعي الزكاة الكبرى هي امتناعهم بالقوة عن عبادة الله ورفعهم السيف دونها، لذلك قاتلهم أبو بكر وإن قال الناس إنه يقاتل أهل القبلة ويقع تحت مفهوم "قتل أنفسهم".
إذًا، لما رأى موسى هذا الحال، تلا عليهم حكم الله؛ أن الله يأذن بهذا الاقتتال أن يقع بين جسد الأمة إذا كان هناك سرطانٌ شركيٌّ مستعصٍ بالسيف ولا يستجيب للقول. إنه الإذن الوحيد بأن تقتِّل الأمة نفسها، بل هو حكم الله النافذ للتوبة والبراءة من هذا الشرك. إن الفئة المؤمنة (الهيئة الهارونية)، لكي تطهر جسد الأمة ولتؤوب إلى ربها، وجب عليها القتال ولو أدى ذلك لقتل أنفسها، حتى تتطهر من الفئة الممتنعة عن التطهر من الشرك بالسيف. إنها الحالة الوحيدة التي أباح الله فيها قتل النفس، وهي إقامة الفساد في الأرض والامتناع بالسيف والقوة لأجل هذا الإفساد.
﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...﴾ (المائدة: 32)
فالنفس لا تُقتل إلا بنفس أو فسادٍ في الأرض. ويجب أن نضع تحت كلمة "فساد" ألف خط؛ فالفساد ليس مجرد كلام ولا أفكار، قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)، فالحجة تواجه بالحجة. وإلا لكان موسى قتل السامري وهو عالم السوء نفسه! إنما كان فعله نسف الشرك ورميُهُ في اليم، أما عالم السوء فكان جزاؤه: ﴿...إِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ...﴾ (طه: 97).
فبالله عليكم، كيف يكون جزاء المؤمن التائب القتل والانتحار، وجزاء عالم السوء نفسه لم يكن القتل؟ ألا نعقل؟!
فالأصل أن الله حرم قتل النفس إلا بالنفس أو بالفساد في الأرض، وهو فعل عملي ومخالفة إفسادية ظاهرة امتُنع عنها بالسيف، وهو جزاء المحاربين. بل حتى المفسد في الأرض لو تاب من قبل أن يُقدر عليه، فالله جعل له مخرجًا: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: 34).
إذًا، فالآية واضحة وضوح الشمس؛ إنها تقول إنه لا يباح أن يحدث اقتتال وتفريق ورفع للسيف إلا في حالة تطهير جسد الأمة من فرقة أعلنت الشرك وامتنعت به بالسيف.
أليس هذا تفسيرًا يتسق مع كلام الله؟
إننا اعتدنا على الحلول الجاهزة؛ إنها مريحة ولا ترهق عضلات المخ عن البحث. قد يبدو ذلك مريحًا في الظاهر أن نأخذ بقول فلان وعلان أن الحكم كان قتلًا للنفس، لكنه يلقي بنا في غياهب تناقضات فطرية لا حصر لها.
إن تفسير أن الله يجعل حدًا لتوبة عن شرك وقع فيه مؤمن هو أن ينتحر... كيف ذلك بربك، وفرعون الذي قتل أبناء بني إسرائيل واستحيا نساءهم وادّعى الألوهية، لو استجاب لموسى لتاب الله عليه: *﴿اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ﴾ (النازعات: 17-19). فكيف بمؤمن تائب لم يصب دمًا؟ بل إن المشرك المحارب الذي قتل أخاك وأباك في الجاهلية، قبل الله توبته بل جعله أخًا لك في الدين وأمرك بموالاته.
والله جعل رفع حرمة دم الكافر المحارب مرتبطة بعدم كفّه عن العدوان: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ۚ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾* (النساء: 91). بل إن من تاب منهم أصبحوا إخوة في الدين.
ثم إن المصيبة الأكبر لهذا التفسير أنه يحول المسألة، بدلًا من أنها درس مستمر واتعاظ دائم للجماعة المؤمنة، إلى مجرد قصة تاريخية للتندر تتكلم عن أحكام ملغاة - حاشا وكلّا!
بل تصور السامري يجري وراء جبريل الذي يركب فرسًا فأخذ من أثر قدمه؟ والعجيب أن بني إسرائيل يكرهون جبريل -والعياذ بالله- فكيف ينزل عليهم بالرحمات؟ ثم هل الملائكة ذوو الأجنحة يركبون الدواب؟ إنها إسرائيليات وتفاسير عجيبة حالت بيننا وبين تدبر المعنى.