عودة المسلمين لميقات رب العالمين

تلخيص : إعادة قراءة في مفاهيم الطهارة والجن والشياطين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التقويم الكوني: إعادة قراءة في مفاهيم الطهارة والجن والشياطين
مقدمة: نحو فهم قرآني خالص
هذا النص هو محاولة جادة للعودة إلى معين القرآن الصافي، لفهم قضايا شائكة طالما أُسيء فهمها وتأويلها عبر الموروث الفقهي والتاريخي. إن المنهجية التي نلتزم بها هي أن القرآن كتابٌ بيّن ومُبيّن ومُحكم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله ما كان نسيًّا. سنخوض في أعماق اللغة القرآنية، ونفكك المصطلحات التي بُنيت عليها تصورات وأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، ونُسائل الفقه الموروث الذي، في كثير من الأحيان، عكس مراد الله تعالى، وخرّ على آياته أصمّ وأعمى.
إن أصل الخلل لا يكمن في الأحكام الفرعية، بل في التصورات والمفاهيم والتعريفات المغلوطة ابتداءً. لذا، سيكون تركيزنا على وضع النقاط على الحروف، وتحديد المصطلحات القرآنية بدقة، مسترشدين بالقرآن وحده، ومُعضدين بما يكشفه العلم الحديث من حقائق تتوافق مع إعجاز الكتاب المبين.



الفصل الأول: الحائرة بين الموروث والقرآن: حكم الحيض في الصلاة
فقرة 1: مأزق السائلة
سألت سائلةٌ وكانت في حيرةٍ وقلقٍ شديدين، فهي ممزقة بين عالمين: عالم ألِفَت فيه أمهاتها وجداتها يتركن الصلاة ويمتنعن عن العبادات وهنّ في حالة الحيض، تأسّيًا بما وجدن عليه آباءهن، عملًا بقوله تعالى على لسان حالهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 22)، وبين نفسها التواقة للصلاة والاتصال بخالقها. لقد أُخبرت مرارًا وتكرارًا أنه لا يوجد أي دليل قطعي في كتاب الله يحرم على المرأة الصلاة أو يمنعها من القرب من العبادات وهي حائض، وأن الأمر برمته يحتاج إلى إعادة نظر وتدبر.
فقرة 2: التدبر اللغوي لآية المحيض
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: 222).
فلنتدبر هذه الآية بعمق ودقة لغوية:
• "قُلْ هُوَ أَذًى": لم يقل الله إنه "نجس" أو "رجس" أو "حرام". لقد وصفه بـ"الأذى"، والأذى مصطلح يصف حالة من الضرر أو المشقة أو عدم الارتياح الجسدي. وهذا يتوافق تمامًا مع ما أثبته العلم الحديث، ففترة الحيض هي فترة تشهد فيها المرأة آلامًا وتغيرات هرمونية، ويكون فيها الرحم بيئة خصبة لتكاثر الميكروبات، مما يجعل الجماع في هذه الفترة مؤذيًا لكلا الطرفين. فالوصف القرآني دقيق علميًا، وهو "أذى" وليس نجاسة تبطل العبادات.
• "فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ": دقة اللفظ القرآني هنا معجزة. لم يقل الله "اعتزلوا الحائض"، بل قال "اعتزلوا النساء في المحيض". حرف الجر "في" هنا للظرفية المكانية والزمانية، أي أن الاعتزال مخصص ومحصور في مكان الأذى (الفرج) وزمانه (فترة نزول الدم). لو كان جسد المرأة كله يصبح غير طاهر، لكان الأمر باعتزال "الحائض" ككيان كامل، وهو ما لم يحدث.
• "وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ": الضمير "هنّ" هنا، في سياق الحديث عن مكان الأذى، يعود على مواضع الأذى، وليس على أجساد النساء بالكامل. فالله يحرم الاقتراب من موضع الجماع تحديدًا. ولو كان النهي عن قرب الجسد كله، لكان ذلك أبلغ من قوله تعالى في الاعتكاف ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ (البقرة: 187). فعدم القرب أشد من عدم المباشرة.
فقرة 3: نقد الفقه الموروث وانعكاس مراد الله
من العجيب أن الفقهاء فعلوا عكس ما تأمر به الآية تمامًا. فبينما حرم الله الاقتراب من موضع الأذى، أباحوا هم ما يسمى بـ"التفخيذ" و"الاستمتاع بما دون الفرج"، ووضع العضو الذكري بين الإليتين، حتى مع وجود مئزر، وهو فعل فيه قرب صريح من مكان المحيض المحظور بنص القرآن. هذا الكلام كذب وافتراء، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب بجسده موضع الأذى استمتاعًا ولو بغطاء، فهذا أمر مرهق للحائض وممنوع بنص القرآن.
وفي المقابل، توسعوا في تحريم ما لم يحرمه الله، فجعلوا جسد المرأة كله نجسًا، وطردوها من المساجد، وقالوا إنها تقطع الصلاة، وحرموا عليها الصلاة ومس المصحف، وكل ذلك بناءً على تصورات وتأويلات لا أصل لها في كتاب الله، بل هي مخالفة صريحة لروحه ونصوصه.


الفصل الثاني: الطهارة والنجاسة في الميزان القرآني
فقرة 1: تفكيك المصطلحات: مفتاح الفهم الصحيح
إن باب الخلل الأكبر في الفقه الموروث هو الخلط في تعريف المصطلحات. فالأحكام ليست إلا نتائج لتصورات، والتصورات تبدأ بتعريفات خاطئة للألفاظ ما أنزل الله بها من سلطان. لنتدبر معًا الفرق بين هذه المصطلحات في القرآن: (نجس، رجز، أذى، طهر، وضوء، غسل، تطهر).
• النجس (نَجَسٌ): لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعناها الفقهي المادي المبطل للعبادات إلا في موضع واحد لوصف حالة معنوية، وهي الشرك. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا﴾ (التوبة: 28). فالنجاسة الحقيقية هي نجاسة الشرك والكفر، وليست صفة لأشياء مادية أو حالات بيولوجية كالمني أو الحيض. فكرة النجاسة المادية هي في الأساس فكرة تسربت من ديانات أخرى.
• الأذى (أَذًى): كما أسلفنا، الأذى هو كل ما يؤذي النفس أو الجسد، وقد جُبلت النفوس السليمة على الابتعاد عنه. والله يأمرنا عمومًا بالتطهر والنظافة في قوله ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾. وقد ذكر القرآن أمثلة للأذى:
o أذى الحيض: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾.
o أذى المرض في الرأس: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ﴾ (البقرة: 196).
o أذى المطر: ﴿إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ (النساء: 102).
وهذه آية قاصمة، فهل الأذى من المطر (الوحل والطين) يمنع من الصلاة؟ بالطبع لا، بل يوجب تطهير الثوب حسب الاستطاعة، لكنه ليس مبطلًا للصلاة. فكيف يكون أذى الحيض، الذي هو حالة داخلية، مبطلًا لها؟
فقرة 2: "الرِّجْز": الاضطراب النفسي والوسواس القهري
كلمة "الرِّجْز" وردت في القرآن عشر مرات، بينما وردت كلمة "نجس" مرة واحدة، مما يدل على خطورة مفهوم "الرجز". المفسرون غالبًا ما أبهموا معناها وقالوا إنها الأصنام أو العذاب، لكن تدبر استخدامها في القرآن يكشف عن معنى أعمق بكثير.
"الرجز" هو حالة نفسية خطيرة من الاضطراب، والهلع، والوسواس، والقهر، واليأس. إنه سقوط النفس في دوامة من العذاب النفسي واللوم لا تستطيع الخروج منها.
• وصف لحالة نفسية: عندما يقع الرجز على قوم، فإنهم يضطربون ويهلعون وتصبح نفوسهم غير مستقرة. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ (الأعراف: 135).
• الخمر والميسر رجز: سماهما الله رجزًا من عمل الشيطان. لماذا؟ لأن مدمن الخمر والميسر يقع في حالة نفسية مهزوزة، مضطربة، جازعة، ويغرق في أفكار تأنيبية وسلوك إدماني قهري. انظر إلى وجه من خسر في القمار، يسودّ وجهه ويقع في حالة من الاختلال والرجز.
• الرجز والوسواس القهري (OCD): ما يقع فيه مريض الوسواس القهري هو "رجز" حرفيًا. إنه تكرار قهري مضطرب لفعل يدرك العقل أنه خاطئ (كتكرار غسل اليدين مئات المرات)، لكنه يشعر أنه مجبور عليه، كأنه في حلقة مفرغة (loop) من الهلع والقلق.
• ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾: عندما أمر الله نبيه ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، أتبعها مباشرةً بأمر أشد لهجة: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (المدثر: 4-5). فالله يعلم أن الوقوع في رجز الوسوسة في الطهارة والغلو فيها هو مرض قلبي أشد خطرًا وأذى من أي قذارة مادية. إنه تحذير من مسالك الغلو التي توقع الإنسان في عذاب نفسي مستطير.


الفصل الثالث: نواقض الوضوء والصلاة بين النص القرآني والموروث
فقرة 1: نواقض الوضوء في القرآن
آية الوضوء واضحة ومحكمة وتحدد نواقضه بدقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا1...﴾ (المائدة: 6).
النواقض المذكورة صراحة هي:
  1. المجيء من الغائط: وهو لفظ جامع مانع يقطع كل وساوس. لا ينقض وضوءك خروج ريح أو شك، بل اليقين بذهابك لمكان التغوط وقضاء الحاجة.
  2. ملامسة النساء: وهي المبالغة في اللمس التي تثير الشهوة وتحرك الجسد، وليست اللمسة العابرة.

أما موجبات الغسل فهي الجنابة. لا يوجد في الآية أي ذكر للحيض أو سلس البول أو خروج الريح كنواقض للصلاة أو الوضوء. الحقيقة المزلزلة هي أن الصلاة لا يبطلها حيض ولا سلس بول، إنما يبطلها الحدث الذي أوجب الله منه الوضوء أو الغسل.
فقرة 2: طهارة الأصل الإنساني
من عجائب الفقه الموروث اعتباره لمني الرجل وفرج المرأة نجسين! يا سبحان الله! كيف تكون بذرة الحياة البشرية، التي كرّم الله أصلها آدم وخلقه بيديه، نجاسة وأذى؟ كيف يكون الموضع الذي نفخ الله فيه من روحه ليخلق عيسى عليه السلام، موضعًا نجسًا؟ إن لم يكن هذا أطهر وأقْوَم شيء، فما هو الطاهر؟
إن الأمر بالاغتسال من الجنابة ليس بسبب النجاسة، بل هو أمر تعبدي له حكمة بيولوجية ونفسية. فالجنابة هي الحالة التي تعقب القذف، وتورث خمولًا وكسلًا في الجسد نتيجة إفرازات هرمونية. فيأتي الغسل لينعش الجسد ويعيد له نشاطه، ويكسر حالة الخمول. وكذلك الوضوء بعد ملامسة النساء، فهي حالة تثير بعض الانفعالات الأولية في الجسد، فيأتي الوضوء ليهدئها ويعيد الإنسان إلى حالة السكينة المطلوبة للصلاة.


الفصل الرابع: حقيقة الجن والشياطين بين الخرافة والعلم القرآني
فقرة 1: نقد التصورات الخرافية عن الجن
لقد رسم الفقه الموروث، عبر أحاديث وروايات، صورة فنتازية وخرافية عن الجن والشياطين، أقرب إلى عالم هاري بوتر منها إلى حقيقة قرآنية. فتصوروا أن لهم أجسادًا عضوية كالبشر:
• يتصورون أن الشيطان يبول في أذن النائم.
• أنه يجامع الزوجة مع زوجها إن لم يسمِّ الله، وأن له ذكرًا يسبق به ذكر الرجل.
• أنه يأكل ويشرب طعامًا حقيقيًا، وإن قلت "بسم الله" تمزقت بطنه.
• أنه قد يتمثل في هيئة بشرية، كقصة أبي هريرة مع سارق الصدقة، أو في هيئة شيخ نجدي على فرس في غزوة بدر.
هذه التصورات الساذجة تجهل تمامًا الطبيعة الحقيقية للجن كخلق من "مَارِجٍ مِّن نَّارٍ"، أي من طاقة نارية صرفة، وتغفل عن حقيقة سلطانهم المنحصر في "الوسوسة" والتأثير على الوعي.
فقرة 2: فرضية علمية للتدبر: الجن كائنات ميكروبية ذات وعي جماعي
لنطرح فرضية للتدبر، لا كحقيقة مطلقة، بل كفتح لفهم أعمق يجمع بين القرآن والعلم. ما المانع أن يكون "الجن"، تلك الكائنات الذكية التي سبقتنا في الخلق والتي ترانا من حيث لا نراها، هي أنواع متطورة جدًا من الكائنات الدقيقة (البكتيريا والفيروسات) التي تمتلك وعيًا جماعيًا؟
العلم الحديث اكتشف ظاهرة مذهلة تُعرف بـ "استشعار النصاب" (Quorum Sensing).
• ما هو استشعار النصاب؟ هو نظام تواصل بين الخلايا البكتيرية. عندما يصل عددها إلى كثافة معينة (نصاب)، تبدأ بالتصرف ككائن واحد متعدد الخلايا، وتُنشئ تجمعات هائلة تسمى "الأغشية الحيوية" (Biofilms).
• قوة الأغشية الحيوية: هذه الأغشية تشكل حصنًا منيعًا، وتجعل البكتيريا أكثر ضراوة ومقاومة للمضادات الحيوية بآلاف المرات. إنها تتصرف بذكاء جماعي وتشن هجمات منسقة.
هذا الوعي الجماعي الطاقي، الذي يتكون عبر إشارات كيميائية وكهربائية، قد يكون هو أساس طبيعة الجن النارية. البشر وعيهم قائم على خلايا عصبية في كتلة بيولوجية واحدة، لكن لا يوجد ما يمنع وجود أنظمة حياة أخرى وعيها موزع على مستعمرة هائلة من الكائنات الدقيقة التي تتحد لتشكل وعيًا واحدًا فعالًا.
فقرة 3: أدلة استنباطية من القرآن على هذه الفرضية
  1. ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ (الجن: 19): في قصة استماع الجن للقرآن، وصف الله تجمعهم حول النبي بأنهم كادوا يكونون عليه "لِبَدًا". واللِّبَد في اللغة هو الشيء المتراكم بعضه فوق بعض بكثافة شديدة، وهو وصف دقيق ومذهل لتشكل الأغشية الحيوية المتلبدة عندما تتجمع بكثافة هائلة.
  2. ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (ص: 41): دعاء أيوب عليه السلام يربط مس الشيطان مباشرة بالمرض والألم (النُّصْب والعذاب). ونحن نعلم اليوم أن الأمراض المستعصية سببها كائنات ميكروبية (فيروسات وبكتيريا). هذا يلمح إلى أن الشيطان (الكائنات المؤذية من الجن) قد يكون هو المسبب للمرض.
  3. ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ﴾ (الأنبياء: 82): تسخير سليمان للجن في أعمال كالغوص والبناء. العلم الحديث اكتشف أنواعًا من البكتيريا تسمى "البكتيريا البنّاءة" (Biocementation bacteria) وأنواعًا أخرى تعيش في أعماق البحار، مما يفتح باب التدبر في طبيعة هذا التسخير.

فقرة 4: حقيقة السحر وحرمته
بناءً على هذه الفرضية، يمكن فهم السحر ليس كشعوذة خرافية، بل كعلم قديم متقدم، ولكنه خطير، كان يهدف إلى فهم آليات التحكم في هذه الكائنات الميكروبية الواعية (الجن) وتسخيرها.
• سليمان وتسخير الجن: كانت معجزة سليمان هي القدرة على التحكم في هذه الكائنات دون أن يفروا من العمل الشاق، الذي يسبب لهم "العذاب المهين". وهذا يطرح سؤالًا أخلاقيًا عن حقوق هذه الكائنات الواعية.
• لماذا السحر محرم؟ بعد سليمان، الذي دعا ربه ﴿مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي﴾، يبدو أن عهدًا إلهيًا قد صدر بتحرير الجن من هذا الاستعباد. المصدر الوحيد الباقي لتعليم هذا العلم هم الشياطين (كفرة الجن ومردتهم)، وهم لا يعلمونه للإنسان إلا مقابل الكفر بالله. لذا قال تعالى: ﴿يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ (البقرة: 102). فالحرمة تأتي من مصدره الشيطاني، ومن كونه اعتداءً على كائنات أخرى.
فقرة 5: سلطان الشيطان: الوسوسة والتحكم في الوعي
إن كل قدرة الشيطان وسلطانه على الإنسان، كما يؤكد القرآن مرارًا، تنحصر في الوسوسة والتأثير على الأفكار والوعي. هو لا يملك قوة مادية مباشرة.
﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ (إبراهيم: 22).
إن خطورته تشبه خطورة فيروس الحاسوب الذي يصل إلى نظام التشغيل ويتحكم فيه من الداخل، فيعطي أوامر متضاربة ويدفع النظام للانهيار. كذلك الشيطان، يؤزّ الكافر أزًّا، ويشاركهم في أموالهم وأولادهم عبر إغوائهم، ويزين لهم سوء أعمالهم. لكن الله تعهد بحفظ عباده المخلصين منه: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر: 42).
وإن الوضوء والغسل والشعائر التعبدية ليست مجرد طقوس، بل هي جزء من هذا النظام الإلهي لحماية المؤمن من هذا العدو الخفي، بكسر "نصابه" ومنع تأثيره السلبي على وعي الإنسان ونفسيته.

سجل المراجعات