عودة المسلمين لميقات رب العالمين

إجماع الحضارات على المواسم المقدسة الفصلية ميقاتا و فصلا

موسم الشكران الكوني - توافق الأمم على قدسية أشهر الحصاد والوفرة (يوليو - سبتمبر)
"إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..." (التوبة: 36)
لم تكن هذه الآية مجرد تشريع، بل كانت وصفاً لنظام كوني إلهي، وناموس فطري أدركته البشرية في كل حضاراتها العظيمة. فـ "كتاب الله" ليس فقط هو النص المسطور، بل هو الكون المنظور الذي نقشت فيه السنن والقوانين. ومن أعظم هذه السنن، هي الدورة الحتمية للزمن التي تربط جهد الإنسان بالرخاء، والعسر باليسر.
فإذا كان شهر
يونيو (رمضان) في نموذجنا يمثل "الرمضاء" ، أي ذروة الحر والعطش والابتلاء، فهو يمثل فلسفياً مرحلة الصبر والجهد التي تسبق الفرج. إنه العنق الضيق للزجاجة الذي لا بد من عبوره للوصول إلى رحابة الوفرة والرخاء. وما أن ينقضي هذا الشهر، حتى تبدأ البشرية، كلٌ في أرضه، بالدخول في "الموسم المقدس"، الأشهر التي تمثل اليسر بعد العسر، والرخاء بعد الشدة.
• شهر يوليو (شوال): شهر "الشيل" وبشائر الحصاد إنه شهر "رفع" المحاصيل وحملها من الحقول. وفي هذا الشهر تبدأ الأرض بتقديم ثمارها الأولى. ففي مصر، يبدأ النيل فيضانَه المحمل بالخصب. وفي الهند، تكون الأمطار الموسمية قد بدأت تروي الأرض. وفي أمريكا الجنوبية، كان شعب الإنكا يحتفل بعيد الشمس ("إنتي رايمي") في أواخر يونيو، داعياً لعودة القوة والدفء لبدء موسم زراعي جديد. إنه شهر البشائر وبداية الأمل.
• شهر أغسطس (ذو القعدة): شهر "القعود" وتخزين الخيرات هو شهر "القعود" عن العمل الزراعي الروتيني للتفرغ لتجهيز القوافل وتخزين المحاصيل استعداداً للموسم الأعظم. وفي هذا الشهر، تكون معظم محاصيل الأرض قد جُمعت. وفي أمريكا الشمالية، كانت قبائل الهنود الحمر تحتفل بعيد "الذرة الخضراء"، عيد الشكر والتسامح وتجديد الروابط. وفي الهند، تقام مهرجانات الحصاد الكبرى مثل "أونام". إنه شهر الامتلاء وتأمين الرزق، والاستعداد النفسي والاجتماعي للاحتفال الأكبر.
• شهر سبتمبر (ذو الحجة): شهر "الحج الأكبر" وذروة الموسم وهنا نصل إلى ذروة الموسم الكوني، شهر القصد والاجتماع والشكر. إنه الشهر الذي تتوج فيه كل جهود العام، وتجتمع فيه الأمم للاحتفال بالوفرة وتجديد العهود. هذا الشهر، الذي يمثل "الحج الأكبر" عند العرب، لم يكن حدثاً منعزلاً، بل كان تعبيراً عربياً عن ظاهرة عالمية، كما سنفصل في الفصل التالي.
• ثم شهر المحرم الذي يعود فيه الحجيج إلى ديارهم ليأمنوا شر قطاع الطرف على انفسهم و بضاعتهم
إن هذه الأشهر الأربعة المتتالية، التي تبدأ بالحصاد وتنتهي بالشكر، تمثل "الأشهر الحرم" في وظيفتها الكونية: فترة أمان وسلام ورخاء، وفصل مقدس بين شقاء الزرع ونعيم الحصاد، وهي الفترة التي فُطرت كل الأمم على تعظيمها.

الجدول الشامل للأعياد والمواسم المقدسة في الحضارات القديمة (يونيو - أكتوبر)
الحضارة اسم الموسم أو العيد التوقيت التقريبي (بالتقويم الحديث) الأهمية والوظيفة ملاحظات على التقارب
العرب (الجاهلية) الأشهر الحرم (الموسم) يوليو - أكتوبر موسم الحج والتجارة، والعودة الآمنة للقوافل بعد الحصاد. ذروة النشاط الاقتصادي والاجتماعي. يتوافق تماماً مع نهاية مواسم الحصاد في الهلال الخصيب وبداية مواسم التجارة العابرة للصحراء.
مصر القديمة (الفراعنة) "آخت" (موسم الفيضان) يبدأ من يونيو/يوليو بداية السنة الجديدة. موسم تجدد الحياة حرفياً، حيث يغمر فيضان النيل الأراضي ويجلب الطمي الخصب. تقام فيه أعياد كبرى مثل عيد الأوبت. وقت الفيضان المصري يتزامن مع وقت استعداد العرب لموسم التجارة الأكبر الذي يعتمد على البضائع المصرية.
الحبشة (مملكة أكسوم) "كرمت" (موسم الأمطار الغزيرة) يونيو - سبتمبر موسم الحياة والزراعة الرئيسي. يليه مباشرة أعياد الشكر والحصاد، وأهمها عيد "مسكل" في نهاية سبتمبر. موسم الأمطار في الحبشة هو مصدر فيضان النيل الأزرق الذي يغذي مصر. الحضارتان مرتبطتان بنفس الدورة المائية.
بابل والرافدين عيد حصاد التمر ورأس السنة الخريفي سبتمبر - أكتوبر احتفال رئيسي مرتبط بالحصاد الأهم (التمر)، وتجدد الدورة الزراعية بعد حر الصيف. يتزامن مع نهاية موسم الحصاد العام في منطقة الهلال الخصيب، وهو الوقت الذي كانت تستعد فيه القوافل التجارية الكبرى.
مملكة سبأ (اليمن) موسم الأمطار الصيفية والحصاد يوليو - سبتمبر موسم الخير والرخاء الذي تقوم عليه الزراعة اليمنية المتطورة. كانت تقام فيه أعياد شكر للآلهة على المطر والخصوبة. يمثل المصدر الرئيسي للسلع الثمينة التي كانت تُنقل في رحلات التجارة العربية بعد انتهاء الموسم.
الإغريق (اليونان) أسرار إليوسيس الكبرى أواخر سبتمبر - أوائل أكتوبر أهم طقوس دينية سرية في اليونان، مرتبطة بأسطورة "ديميتر" (إلهة الزراعة). هي احتفال بدورة الحياة والموت والبعث (المواسم الزراعية). يقام في ذروة الخريف، ويمثل فهماً فلسفياً وروحانياً عميقاً لدورة الحصاد والموت والولادة من جديد التي تمثلها الأرض.
الإمبراطورية الرومانية ألعاب رومانا (Ludi Romani) سبتمبر أقدم وأشهر مهرجان ديني في روما، يقام على شرف الإله "جوبيتر". يمثل نهاية موسم الحملات العسكرية، ووقت للشكر والسلام والاحتفالات العامة. يتزامن تماماً مع موسم الحج العربي. كلاهما يمثل "وقفة مقدسة" بعد موسم حافل (الحرب عند الرومان، التجارة والزراعة عند العرب).
الفرس (الزرادشتية) "مهرجان" (Mehregan) في الاعتدال الخريفي (أواخر سبتمبر) عيد عظيم للشكر على الحصاد، وتكريم "ميثرا" (إله العهود والصداقة). كان يوماً للمحبة والولاء وتجديد العهود بين الملك والشعب. فكرة "تجديد العهود" في عيد الحصاد تتشابه رمزياً مع فكرة تجديد العهد مع الله في الحج.
شعوب القِلْط (أوروبا القديمة) "مابون" (Mabon) / عيد الاعتدال الخريفي في الاعتدال الخريفي (أواخر سبتمبر). ثاني أعياد الحصاد الكبرى الثلاثة لديهم. إنه عيد الشكر الرسمي على محاصيل الفاكهة والخضروات، ووقت للتأمل في التوازن. يمثل الفهم الأوروبي القديم لنقطة التحول في السنة، والامتنان للطبيعة على عطائها.
حضارة الهند موسم الأمطار (المونسون) وأعياد الحصاد يونيو - سبتمبر أهم فترة زراعية. تتوج بمهرجانات حصاد كبرى مثل "أونام" و "غانيش تشاتورثي"، وهي أعياد شكر ووفرة. موسم الرخاء في الهند يعني توفر السلع الثمينة التي كانت تصل إلى العرب عبر طرق التجارة البحرية.
حضارة الصين عيد منتصف الخريف (عيد القمر) اليوم 15 من الشهر الثامن (غالباً في سبتمبر) عيد الحصاد بامتياز، حيث تجتمع العائلات لشكر الآلهة على المحصول الوفير، ويرتبط باكتمال القمر الذي يرمز لـ"لم الشمل" والوفرة. يمثل ذروة موسم الحصاد في شرق آسيا، وهو وقت كانت تستعد فيه طرق الحرير القديمة لنشاطها الشتوي.
حضارة الأزتيك (المكسيك) "أوتش بانيزتلي" (Ochpaniztli) يوافق شهر سبتمبر تقريباً. عيد الحصاد الكبير، ومعناه "الكنس". تقام فيه طقوس تنظيف وتطهير واسعة استعداداً لتخزين المحاصيل الجديدة، واحتفالاً بخصوبة الأرض. يثبت أن فكرة "التطهير" المادي والروحي استعداداً للدورة الجديدة كانت مفهوماً عالمياً.
الهنود الحمر (أمريكا الشمالية) احتفال الذرة الخضراء أواخر الصيف (أغسطس أو سبتمبر). عيد الحصاد والتجديد الروحي، والمسامحة، والعفو العام عن الجرائم. فكرة العفو ووقف النزاعات تتشابه رمزياً مع فكرة الأشهر الحرم. يوضح أن "السلام الاجتماعي" كان جزءاً لا يتجزأ من احتفالات الحصاد والوفرة.
حضارة الإنكا (أمريكا الجنوبية) "إنتي رايمي" (عيد الشمس) 24 يونيو (الانقلاب الشتوي) أهم عيد ديني في إمبراطورية الإنكا. كان يقام لتكريم إله الشمس "إنتي"، وللدعاء بعودة الشمس وقوتها لبدء الموسم الزراعي الجديد. يثبت عالمية فكرة ربط الأعياد الكبرى بالدورات الفلكية والزراعية كنقطة تحول في السنة.

ساعة الأرض المقدسة التي توحدت فيها الأمم
إذا كان الموسم المقدس يمتد لأربعة أشهر، فإن شهر سبتمبر يمثل قلبه النابض وتاجه المتلألئ. إنه الشهر الذي تتوافق فيه ذروة احتفالات الحصاد والشكر في أعظم حضارات العالم بشكل مذهل، ليصبح بحق "شهر الحج الأكبر العالمي". فالحج العربي في مكة لم يكن إلا تعبيراً فريداً عن شعور إنساني كوني كان يتردد صداه في نفس اللحظة من روما غرباً إلى الصين شرقاً.

لحن كوني واحد
إن الناظر في هذا الجدول يرى بوضوح أن البشرية كانت تعزف لحناً واحداً بأدوات مختلفة. ففي سبتمبر، شهر الحج الأكبر، كانت تتكرر نفس المواضيع المقدسة:
• الشكر والامتنان: على عطاء الأرض ورزق السماء.
• السلام والأمان: بوقف الحروب والنزاعات وتأمين الطرق.
• الاجتماع ولم الشمل: سواء كان حجاً دينياً، أو احتفالاً رسمياً، أو لقاءً عائلياً.
• التجديد الروحي: بتطهير النفس وتجديد العهود استعداداً لدورة جديدة.
إنها ساعة زمنية عجيبة، تجلت فيها حكمة الله في خلقه، وألهمت كل الأمم على اختلاف ألسنتها وألوانها أن تعظم ذات الفترة من السنة. فيا للعجب، ويا للأسف، أن يتوه عن هذا الإيقاع الكوني الفطري قومنا المتأخرون دون عن كل الأمم في كل مصر وعصر، بعد أن جاءهم من الله كتاب يؤكد هذا النظام ويصفه بأنه "الدين القيم".

سجل المراجعات