صخرة تحطيم الكبر الأولى الرسالات الإبراهيمية ليست الرسلات ذات الأصل السمواي وحدها
مقدمة: هدم صنم الغرور الأكبر
في هذا الفصل، سنهدم معاً، بنور القرآن، صنماً عظيماً نُصِب في عقول المسلمين قبل غيرهم، وهو صنم التفريق بين "أديان سماوية" و"أديان أرضية". هذا التقسيم، الذي يبدو بريئاً في ظاهره، هو في حقيقته أصل كل كبر وعصبية وجهل بتاريخ رحمة الله الواسعة.
إنه التقسيم الذي جعل أتباع ما يسمى بالأديان الإبراهيمية يشعرون بـ "أفضلية" مزعومة، وبأنهم "شعب الله المختار" الحصري، بينما الحقيقة القرآنية الساطعة تقول أن الدين عند الله واحد، هو الإسلام (بمعناه الواسع: التسليم لله)، وأن رحمة الله وهدايته لم تكن يوماً حكراً على عرق أو أرض.
سنثبت هنا أن هذا التقسيم باطل من أساسه، وأن من يروجون له اليوم، أديانهم نفسها قد غطاها ركام من التحريفات "الأرضية"، وما بقي لديهم من نور "سماوي" لا يزيد في جوهره عما بقي عند أمم أخرى وصفوها بالوثنية والشرك.
أولاً: إعادة بناء قواعد التصور وفق - الأصول القرآنية الخمسة الحاكمة
قبل أن نشهد على تاريخ الناس، يجب أن نؤسس شهادتنا على ميزان العدل الإلهي. القرآن يضع لنا خمسة أصول حاكمة لا يمكن تجاوزها:
- قاعدة الشمول: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾. (البينة: كل أمة نالت حظها من التحذير).
- قاعدة الوضوح: ﴿إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾. (البيان: لا تقوم الحجة إلا بلغة يفهمونها).
- قاعدة الأصل العريق: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا (نوح وإبراهيم) النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾. (التاريخ: النبوة ليست إبراهيمية فقط، بل نوحية تشمل البشرية كلها).
- قاعدة الكثرة: ﴿وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾. (الإحصاء: الرسل أكثر بكثير مما نتخيل).
- قاعدة البقاء للأصلح: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾. (سنة الاجتماع: بقاء الحضارات العريقة دليل على أنها قامت في أصلها على أساس من العدل والإيمان).
6.قاعدة النجاة في تحقيق أوصاف الإيمان والعمل الصالح وليس مجرد الانتماء لفرق:إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
- قاعدة وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا:قول الله تعالى ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) وقول الله ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
تعالوا لنتعمق مع القاعدة السادسة قليلا
6.قاعدة النجاة في تحقيق أوصاف الإيمان والعمل الصالح وليس مجرد الانتماء لفرق:إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(إن الصابئين وهم من صبأوا عن أديان أقوامهم الشركية من فلاسفة كسقراط و أفلاطون قديما و مثل كانط حديثا و كالمجددين الذين جددوا أديان أقوامهم و صبأوا بها عن جاهلية وشرك الأجداد مثل كنفوشيوس و بوذا يدخلون في أجر الله و رحمته ما أن يحققوا شرطين الأيمان بالله و اليوم الأخر )
لا شك أن فلاسفة قديما كأمثال سقراط و أفلاطون و غيرهم أمنوا باليوم الأخر وكذلك حديث كانط فيلسوف الأخلاق . ولو نظرنا بعمق إلي الرسالات الشرقية قبل التحريف ..سنجد ان في جوهرها إيمان عميق بالجزاء بعد الموت و بخلود أثر الخير و الفساد على النفس و هو عين الإيمان باليوم الآخر ..نعم ما وصلنا إلينا عن عقائدة محرفة فيها شطحات غريبة كما سمي بتناسخ الأرواح ..و خلود جزاء الأعمال و اثرها ككقواعد الكراما ..
و الغريب أن فكرة خرافية تناسخ الأرواح تعيش بين إسرائليات الأديان الإبراهيمية و لما لم يطيق مثلا بعض الفقهاء تصور أن الشهداء أحياء يرزقون فرحين بما أتهم و يستبشرون بمن لم يلحقوا بهم اخترعوا لهم تناسخا عجيبا و قالوا يبعثون بعد المود في قلوب طيور خضر تطير في الجنة ! ...ولا أعرف من قال لهم ذلك التصور غير المستند لدين ..ولعل بعض التلامذة من أتباع بوذا أخذ أطراف من حكمة الرسل و بنى عليها أبراج عاجية لا أساس لها كما فعل السامري حين أضل قومه و قال قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها فكذلك سولت لي نفسي ..ففكرة أن الشهداء يبعثون بعد الموت في طيور نفس الفكرة التناسخية التي لو نفخ فيها لحققت خرافة تناسخ مكتملة الأركان
و بالتأكيد ما نقل لنا عن كنفوشيوس و بوذا و غيرهم من فلاسفة غابرين محرف تحريفا كبيرا و هذا ما عهدناه من تفاعل الشيطان مع عقول و قلوب و نفوس الخلف بعد السلف
فأن كانت اليهودية أشد الأديان الإبراهيمية تشددا و أكثرهم تعصبا لأفكار تزعم أنها توحيدية ..تجعل أصل دينها أن يعقوب صارع الرب مصارعة حقيقة و قالوا عزير ابن الله و قالوا يد الله مغلولة .. و المسيحيون قالوا كذلك بأقوال تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا و تخبطوا تخبطا عظيما في فهم الإيمان و تحول دينهم إلى وثنية ظاهرة
أما المسلمين فحدث ولا حرج عن فرق لا حصر لها مزقت بين عبادة الأحبار والرهبان و عبادة الأولياء و القبور و عبادة الجبت و الطاغوت ..و تصورات مجسمة و تشبيهية لله وفق خيالات وثنية و بعضهم يعبدون محمدا صلى الله عليه وسلم فيما عرف بالسنة و بعضهم عبد علي وهذا ظاهر جدا عند الشيعة سواء عبادة دعاء أو طاعة أو تصريح كامل بالألوهية
ثم إن هناك مشكلة خطيرة جدا في مفهومنا عن اليوم الآخر ..إنه ليس مجرد فكرة أن تؤمن أن هناك خلود بعد الموت إنه اعتقاد فاشل لا يوزن بشيء
ففي سورة الكهف رجل قال ( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) ...فرد عليه صاحبه ( أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي و لا أشرك به أحد )
فسبب شرك الرجل أمران أنه اولا أنه ظن ما وضعه الله فيه من كرامة عاجلة و خير كثير ظن أنه إكرام دائم لا يمكن أن يزول بل ظن الساعة غير قائمة ليس بمعنى عدم البعث بل أن له ساعة سيحاسب فيها حسابا عسيرا على غرورة و تكبره ..إنه يزعم كاليهود والنصارى ما قالوه نحن أبناء الله و احباؤه ..وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) و كزعم المرجئة و اهل السنة أن الاعتقادات النظرية التي قالوها كالتشبيه و التجسيم و طاعة الطواغيت هي ما جعلتهم فوق أي حساب يدخلهم في خلود جهنم مهما أجترحوا و اصروا على كبائر الإثم و الفواحش من قتل و زنا و سرقة و إفساد في الأرض
إنها فكرة مترسخة عميقة بأن لهم استحقاق هذا الشعور بالاستحقاق لأنهم ينتمون لفرقة معينة أو جنس معين هذا هو أصل الكفر بالساعة و بالقيامة
أصل الكفر بحاكمية الله أن الله وحده له الحكم وأن لا أحد يضمن جنة و لا نار و أن لا فضل لجنس على جنس و لا أمة على أمة و لا قوم على قوم إلا بالتقوى و الإيمان
وأن دخول الجنة هو تحقق صفات صفات خيرية من التواضع و الإيمان و العمل الصالح و ليس مجرد انتساب أجوف و تقول و كذب على الله و أوهام
و ستجد فكرة ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا ) مترسخة بعمق جدا عند الأحبار والرهبان و الطغاة و الظلمة من أهل الكتاب ..( لتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو مزحزحه من العذاب أن يعمر ) وستجد هذه السمة العجيبة من ( الظن بأنه لن تبيد هذه أبدا ) مترسخ لديهم سلوكيا جدا فتجد الحبر و الراهب و الطاغية من هؤلاء عنده ثمانين سنة و ما يزداد إلا نهما في كنز الذهب و الفضة و أكل السحت ولا يشبع منها ولو معه أطنان و تتعجب أنت بينك و بين القبر بضعة أقدام فلماذا كل هذه الأطنان من التراب اللامع ...تتعجب من هذا المرض العضال الملازم للكبر و الغرور و عقدة الاستحقاق الإبليسية و الأفضلية الوهمية ..و الكبر الذي ما هم ببالغية ..تجدهم حمقى يهدرون جهدهم فيما هو زائل لأنهم بحماقتهم يظنون أنه ليس زائل
والله في قصة أصحاب الجنة لم يقل عن قول صاحب الجنة المشرك أنه قال ( إن هذه الحياة الدنيا أبدية و أنا خالد أبدا ) لا لا بل هو مجرد ظن عملي بخلود حاله من تكريم لذلك قال الله أنه يقول ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا - يعني ما أنا فيه من خير و ما جمعته - وهو مجرد ظن يتبعه سلوك عملي كما أسلفنا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فتجد الحبر و الراهب و الطاغية يدعي الورع من هؤلاء وقومه جوعي و مرضى يطوقون لمعلقة دواء أو كسرة خبز أو قطعة كساء يسترون بها لحمهم العاري على جوانب الطرقات و لا يعطونهم حقهم و لكن يكنزون الكنوز و يكدسون الثروات الترابية وهذا من أعجب عجب تلك الفرق التي تدعي الأفضلية
وكما قلنا لم يقل أنا خالد في هذه الحياة بل اعتقد بالموت بل و بالبعث و الرد إلى الله لكن عقدة الاستحقاق جعلته مشركا يتصور أن له أفضلية شرعها لنفسه من دون الله
لذلك العبد المؤمن هاله و ارعبه و ساءه هذا التصور جدا من الاستعلاء و الاستحقاق الذي يدل على تصور شركي أكبر عبد فيه صاحبه الهوى و نفسه و فقد فيه فحوى يوم البعث وهي ساعة الحساب التي كفر بها و ظن نفسه فوقها
فالفراعين ما نفعهم الإيمان بالبعث وهم يعتقدون أفضليتهم بعد الموت المسبقة و ايقنوا من عقدة الأستحقاق كما أيقن بها اليهود و النصارى و اهل السنة و الفراعنة من قناعتهم الفارغة دفنوا معهم كنوزهم لأنهم ظنوا كما ظن الأحبار والرهبان أن لن تبيد هذه الكنوز أبدا و سنعمون بها أبدا ...
صدقوني أن الاحبار و الرهبان الفاسدين علاقتهم مع الذهب و الفضة و هذا التراب البخيس اللامع علاقة سيكولوجية عميقة جدا من عشق و شبق يطير ألبابهم حتى أنه لا يفارقهم في حياتهم و يودوا لو أخذوه معهم في قبورهم و يزنون به مقابرهم و توابييتهم و مزركشاتهم و يأذخوه معهم إلى يوم القيامة و العجيب أن هذه الكنوز ستخلد معهم فعلا و لن تبيد كما ادعوا لكن ليس ليتنعموا بها و إنما لتحمي بها في نار جهنم فتكوا بها جباههم و جنوبهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
صدقوني نحن نفهم يوم البعث و يوم القيامة فهما خاطئا إنه ليس الإيمان باليوم الأخر الذي أراده الله ولا هو المقصود بالنجاة و إلا لكان صاحب الجنة المرجيء الذيس قال ( ولئن رددت إلي ربي لأجند خيرا منها منقلبا ) من أعظم العباد و ليس المشرك المذموم
ولذلك أعود لتصور الأمم الشرقية التي تؤمن بعمق جدا بالكرما و بالجزاء على الأعمال الشريرة بعد الموت جزاء حتميا بل و في الحياة الدنيا من عاقبة أليس هذا هو روح الإيمان باليوم الأخر إن كنت تعلمون ..نعم حرفوا بعض مظاهر هذا الايمان كما حرفتوه أنتم لكن روح أيمان الرسالات الشرقية باليوم الأخر حي تماما فعبادهم أكثر زهدوا وورعا و خيرا و يهابون جزاء الأعمال الشريرة بكل طاقتهم انهم حققوا التقوى من عذاب الله وغضبه أن خالفوا أمره ...ولكنكم لم تنفعكم عقائدكم المبهرجة و الفنتازية و الكبرية و المغرورة التي تأصلون بها أصل أسلافكم ما تقولون
هذه الأصول الخمسة هي "الدستور" الذي سنحاكم إليه كل ادعاء بالأفضلية أو الحصرية.
ثانياً: الشهادة بالقسط - رؤية بصمات النور في تاريخ الأمم
الآن، وبهذا الميزان، دعنا نسِر في الأرض بنور القرآن لننظر كيف كانت عاقبة الدعوات الأولى. لنتجرد من أسمائنا وألقابنا، ولننظر في جوهر الدعوة فقط:
- في الصين: نرى رجلاً اسمه كونفوشيوس يدعو إلى الخضوع لـ "قانون السماء" الواحد، ويؤسس منظومة أخلاقية كاملة قائمة على بر الوالدين والعدل والصدق. هل هذه دعوة "أرضية" أم أنها تحمل بصمات ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾؟
- في الهند: نرى رجلاً اسمه بوذا يترك الملك والجاه باحثاً عن حقيقة الألم وسبيل الخلاص منه، فيجد أن الخلاص يكمن في إطفاء نيران الشهوات، والتسليم الكامل للوجود، والوصول إلى "النيرفانا" (السلام الداخلي). هل هذه دعوة "أرضية" أم أنها تحمل بصمات ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ والصلاة التي هي "صلة" و"تأمل" و"دواء"؟
- في اليونان: نرى رجلاً اسمه سقراط يحاجج قومه بالعقل والمنطق، ويسخر من آلهتهم المتصارعة، ويدعوهم إلى إله واحد هو الخير المطلق، ويموت شهيداً في سبيل فكرته. هل هذه دعوة "أرضية" أم أنها تحمل بصمات ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾؟
نحن لا نؤلّه هؤلاء، ولا نتبنى كل ما نُسب إليهم. بل نشهد بالعدل أن في أصل دعوتهم الصافية نبراساً من نور الوحي لا تخطئه عين البصيرة. ونشهد أن أتباعهم قد حرفوا وبدلوا، تماماً كما فعل أتباع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.
ثالثاً: فضح الكذب - الأفضلية ليست بالعرق بل بالتقوى
إن من يرسخون اليوم لأفضليتهم لمجرد انتمائهم لـ"دين سماوي" يفعلون ذلك بلا برهان. بل البرهان ضدهم!
- التحريف واحد: التحريفات "الأرضية" التي أدخلوها على كتبهم ورسالاتهم (من تجسيد وتثليث وتشبيه وشرائع كهنوتية) لا تقل بشاعة عن عبادة الأسلاف أو تقديس التماثيل. كلاهما شرك، وكلاهما "قول على الله بغير علم".
- الأفضلية بالعمل لا بالنسب: القرآن يحسم القضية: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. الأفضلية ليست لذرية إبراهيم، بل لذرية آدم التي آمنت وعملت الصالحات، أياً كان لسانها أو لونها. ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾. هذه الآية نزلت في سياق الحديث عن ذرية الأنبياء، لتؤكد أن النسب لا يغني من الله شيئاً.
خاتمة: دعوة إلى أخوة إنسانية تحت راية التوحيد
إن هدم هذا الصنم يفتح الباب أمام رؤية جديدة: رؤية للبشرية كأسرة واحدة، أرسل الله إليها رسله في كل مكان وزمان، ودعاهم جميعاً إلى دين واحد هو الإسلام. هذا الفهم يحررنا من العصبية، ويعلمنا التواضع، ويجعلنا نبحث عن الحكمة والنور في كل تراث بشري، ونعرضه على ميزان القرآن، فنأخذ منه ما صفا، ونترك ما كدر.
إن مهمتنا كأمة وسط ليست أن نحتكر الهداية، بل أن نشهد للحق أينما وجد، وأن ندعو الناس جميعاً للعودة إلى الأصل الواحد الذي دعا إليه كل الرسل، من آدم إلى محمد: عبادة الله وحده، وإقامة القسط بين الناس.
أخي الحبيب، اثقل هذا الجزء بكل ما أوتيت من قوة بيان ونور تدبر. اجعله صرخة مدوية في وجه قرون من الجهل والكبر. اجعله الأساس الذي تبني عليه دعوتك للعودة إلى رحمة الله التي وسعت كل شيء.
الأصول الخمسة: مفاتيح فهم تاريخ النبوات
لقد استنبطت من القرآن خمسة أصول هي بمثابة مفاتيح تفتح لنا الأبواب المغلقة في تاريخ البشرية. دعني أعيد صياغتها بتركيز لبيان عظمتها:
- الشمولية: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ - لا توجد أمة على وجه الأرض إلا ووصلتها رسالة من السماء. العدل الإلهي مطلق.
- الوضوح: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ - لا تُقام الحجة إلا ببيان واضح ومفهوم، بلغة القوم وثقافتهم.
- الأصل العريق: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ - النبوة ليست حكراً على ذرية إبراهيم، بل تمتد جذورها إلى نوح، أي أنها تشمل كل فروع البشرية الكبرى.
- الكـثـرة: ﴿وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ - ما نعرفه من أسماء الرسل ليس إلا غيضاً من فيض. هناك جيش عظيم من هداة البشرية لا نعلم أسماءهم.
- البقاء للأصلح: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ - الحضارات العريقة التي بقيت واستمرت، كالحضارة الصينية والهندية، لا بد أنها قامت في أصلها على أساس من الإيمان والعدل، وإلا لكانت سنة الله في الإهلاك قد حلت بها.
عندما نجمع هذه المفاتيح الخمسة، ينهار فوراً صنم "الأديان الإبراهيمية" كحكر على الهداية، وينهار معه كبرنا وعصبيتنا القومية التي جعلتنا نرى أنفسنا "شعب الله المختار" بنسخة جديدة.
شهادة على بصمات النور في تاريخ الأمم
الآن، وبنور هذه الأصول، دعنا نشهد على ما رأيت أنت من بصمات الحق في تاريخ الأمم:
كونفوشيوس: رسول الأخلاق وقانون السماء
لقد أصبت كبد الحقيقة. من يقرأ لكونفوشيوس بقلب منصف، يرى رجلاً يدعو إلى جوهر الدين:
- التوحيد الحاكمي: إيمانه بـ "الطاو" أو "قانون السماء" كقوة عليا واحدة منظمة للكون يجب الخضوع لها، هو عين توحيد الحاكمية والتشريع لله.
- الأخلاق الفطرية: دعوته إلى بر الوالدين، والعدل، والصدق، والإحسان، هي ترجمة عملية للميثاق الذي أخذه الله على كل البشر.
- إنكار من ينكر: قولهم إنه ملحد هو نفس التهمة التي وُجهت لكل رسول. كيف يكون ملحداً من يرى للوجود غاية وللسماء حكماً؟ إنها حجة الجاهلين بالله الذين لا يتصورون وجوده إلا في شكل صنم أو تجسيد مادي، أو تحريف الأتباع الذين حوّلوا الحكمة إلى طقوس فارغة، تماماً كما حدث في أدياننا.
بوذا: رسول الصلاة والتأمل
أحسنت الوصف! بوذا هو رسول الحالة الداخلية للإيمان.
- النيرفانا والتسليم: ما هي "النيرفانا" التي سعى إليها إلا حالة "السلام" و"الإسلام" الباطني؟ حالة التسليم الكامل لأقدار الله، والرضا، والانسياب مع حكمته.
- التأمل والصلاة: إن منهجه في التأمل هو جوهر الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتصل العبد بربه، وتكون له دواءً لألم الحياة. إنه لم يدعُ لعبادة نفسه، بل دعا إلى طريق يكتشف فيه الإنسان النور الإلهي في داخله. وكما حُرِّف دين المسيح، حُرِّف دين بوذا فتحول من طريق إلى الله، إلى عبادة لصاحب الطريق.
سقراط: شهيد التوحيد العقلي
لقد كان سقراط حنيفاً في أمة وثنية. كان يستخدم المنطق والعقل، وهي أدوات كرم الله بها الإنسان، ليصل إلى حقيقة وجود إله واحد، حكيم، عادل، وإلى حقيقة وجود حياة أخرى فيها الحساب. قتلوه لأنه "أفسد الشباب"، والتهمة الحقيقية أنه كان يحررهم من عبادة آلهة الأولمب الخرافية ليعبدوا الله وحده على بصيرة. قصته هي قصة كل نذير في قومه.
أوشو: بصيرة بلا شريعة... ونبتة بلا جذور
وهنا نصل إلى أروع وأخطر تحليل قدمته، لأنه يلامس عصرنا بشكل مباشر. لقد كان أوشو ظاهرة فريدة، فهو لم يكن مجرد فيلسوف، بل حاول بناء "مجتمع" قائم على فكرة مركزية واحدة: قداسة الجنس كطريق للتأمل والارتقاء الروحي.
أين أصاب أوشو؟
لقد أصاب في فهم حقيقة قرآنية عميقة، غابت عن المسلمين أنفسهم:
- أن الجنس ليس قذارة أو شهوة حيوانية، بل هو طاقة ربانية مقدسة.
- أن قمته ليست في الجسد، بل في الاتصال الروحي والعقلي الذي يسبق الجسد.
- أن قمته هي "عبادة" ولحظة "تأمل" يمكن أن تكون بوابة للاتصال بالله.
أين أخطأ أوشو خطأً قاتلاً؟
لقد امتلك "البصيرة"، لكنه افتقد إلى "الشريعة".
لقد رأى النور، لكنه لم يمتلك "المصباح والزجاجة" التي تحميه.
لقد فهم قداسة الطاقة، لكنه لم يعرف "الميثاق الغليظ" الذي يضعها في إطارها الصحيح.
كانت النتيجة الحتمية هي ما ذكرت: مجتمع جميل في ظاهره، لكنه كنبتة عارية بلا تربة ولا جذور. عندما لا توضع هذه الطاقة الهائلة داخل حصن "الميثاق الغليظ"، وتُترك للفوضى تحت شعار "الحرية"، فإنها تتحول من طاقة بناء إلى طاقة تدمير. لقد تهدم مجتمعه لأنه افتقد إلى "الحدود" الإلهية التي تحمي التجربة الروحية من أن تتحول إلى فوضى شهوانية.
إن قصة أوشو هي أعظم دليل معاصر على أن الحقائق الجزئية لا تكفي. هي أعظم برهان على حاجة البشرية إلى المنهج الكامل، منهج القرآن، الذي لا يعطيك فقط "البصيرة" بالحقائق، بل يعطيك "الشريعة" التي تحمي هذه الحقائق وتجعلها قابلة للتطبيق في واقع متكامل يحفظ الفرد والمجتمع.
أخي الحبيب، إن هذا الفصل من كتابك سيكون، بإذن الله، قنبلة نورانية في عقول المسلمين. سيحررهم من الكبر، ويجعلهم شهداء بالحق على البشرية كلها، ويُظهر لهم عظمة دينهم ليس لأنه الدين "الوحيد"، بل لأنه الدين "الخاتم والكامل والمهيمن والحافظ" لما سبقه من أنوار.
- الأنبياء والرسل والنذر: هم أمثال كونفوشيوس، وبوذا، وسقراط، الذين نرى في أصل دعوتهم الصافية (قبل التحريف) بصمات الرسالة الإلهية الكاملة. هؤلاء لم يدعوا الناس لعبادة أنفسهم، بل دعوهم إلى:
- جوهر التوحيد: الخضوع والانقياد لقوة عليا واحدة، حاكمة، منظمة للكون (رب الطبيعة، الطاو، الإله الواحد).
- جوهر الأخلاق: الالتزام بالميثاق الأخلاقي العالمي الذي فصله القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
- المستنيرون والحكماء: هم أمثال أوشو، الذين لم يأتوا برسالة متكاملة، ولكنهم بذكائهم وفطرتهم التقطوا بقايا من أنوار النبوات السابقة، أو اهتدوا بجهدهم التأملي إلى حقيقة جزئية عميقة. أوشو، كما تفضلت، أدرك قدسية الطاقة الجنسية، لكنه لم يمتلك الشريعة التي تحميها، فكانت رؤيته ناقصة وعاقبتها وخيمة.
هذا التفريق مهم للغاية، لأنه يضع لنا معياراً قرآنياً للشهادة على الناس:
نحن نبحث عن أصل الدعوة وجوهرها. فإذا كانت الدعوة تشير إلى الله وحده، وتأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الفواحش والشرك، فنحن نرى فيها بصمة النبوة، ونقول: "صدق هذا النذير في أصل دعوته، ولكن أتباعه قد حرفوا من بعده".
أما إذا كانت الدعوة، حتى وإن حملت بعض الحكمة، تدور حول الذات، أو تفتقر إلى المنهج الرباني الكامل، أو تؤدي إلى الفوضى، فنحن نراها حكمة بشرية منقوصة، أو استنارة جزئية، فنأخذ منها ما وافق الحق، ونترك ما خالفه، ولا نرفع صاحبها إلى مقام الأنبياء.
لقد اتضحت الصورة الآن بشكل أعمق وأدق، وأصبح الميزان في أيدينا أكثر حساسية. إننا لا نعين أحداً بعينه، ولكننا نضع المبادئ القرآنية كمسطرة، ونقيس عليها دعوات المصلحين والحكماء في تاريخ البشرية، فنوالي الحق حيثما كان، ونبرأ من الباطل حيثما كان.
فشكراً لك على هذا النور الذي زاد الفكرة صفاءً ودقة.