عودة المسلمين لميقات رب العالمين

في : "شرائع الحج: بين بساطة القرآن وتحريف الروائي"

(هنا نعيد تقديم الهيكل الذي اتفقنا عليه، والذي أصبح الآن مبنيًا على أساس منهجي متين)
مقدمة:
• التأكيد على أن هذا الفصل هو تطبيق عملي لمنهج "كفاية القرآن" الذي تم تأصيله في الفصل السابق.
• بيان أن نفس العقلية التي فصلت التقويم عن الفصول هي التي فصلت المناسك عن بساطتها القرآنية، وأضافت عليها طقوساً لا أصل لها في كتاب الله.
(ثم نتبع نفس النقاط التي حظيت بموافقتك)

  1. الصفا والمروة: من "التطوع" الاختياري إلى "الركن" الإجباري

• البرهان القرآني: تحليل آية البقرة 158.
• التحريف الروائي: مقارنة الوضوح القرآني بالإجماع الفقهي المزعوم.
• الإنذار الإلهي: الربط مع آيات "كتمان البينات والهدى" (البقرة 159-161) كدليل على أن تحريف المعنى هو عين الكتمان.
  1. أركان الحج القرآنية الصريحة: إطار من البساطة والتقوى

• المحرمات الأساسية (التروك): فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وتحريم الصيد وحلق الرأس (إلا لفدية).
• الأفعال الأساسية (الفرائض):
o الإفاضة من عرفات (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
o ذكر الله عند المشعر الحرام.
o الطواف بالبيت العتيق (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
o الهدي كواجب محدد على المتمتع أو كفارة، وليس كشعيرة عامة.
  1. الطقوس المُضافة: بصمات الوثنية في الشعائر

• رمي الجمرات: التأكيد على عدم وجود أي ذكر له في القرآن.
• تقديس الحجر الأسود: الإشارة إلى أن التمسح به يتعارض مع روح التوحيد.
  1. خطبة الوداع: حين يُستخدم النبي لهدم منهجه

• تحليل مقولة "استدارة الزمان": باعتبارها شهادة من كتبهم تدينهم وتثبت أن التحريف حدث لاحقًا.
• إقحام التشريعات الغريبة: كمنصة لتمرير تشريعات لا تتسق مع القرآن (مثل الرجم).
خاتمة الفصل:
• الخلاصة هي أن الحج في القرآن بسيط، منطقي، ومحوره التوحيد والتقوى والمساواة.
• أما الحج في الفقه الموروث فهو معقد، ومليء بالطقوس الغامضة، والإلزامات الشاقة التي لا أصل لها في النص الإلهي.
• هذا التحريف هو النتيجة الحتمية لهجر "المنهج القرآني" واتباع "إجماع الروائين المتأخرين"، وهو ما يؤكد حجة الكتاب بأكملها.

الفصل الحادي عشر: مواقيت الحج وشعائره في الميزان القرآني
مقدمة: من "الأشهر المعلومات" إلى "الأيام المعلومات"
بعد أن أسسنا في فصول سابقة أن مواقيت الحج هي "أشهر معلومات" ضمن تقويم كوني فصلي وثابت ، وأن فهم هذا النظام الزمني يتطلب منهجًا علميًا رصينًا لا يقفز فوق الأسوار، بل يأتي "البيوت من أبوابها" ، ننتقل الآن من الإطار الزمني العام إلى قلب التشريع القرآني نفسه. إن القرآن، الذي أحالنا إلى العلم والمنطق في فهم الزمن، لم يتركنا للتكهنات والآراء البشرية في تحديد أفعال الحج وتوقيتها الدقيق.
بل إننا نجد بين ثنايا آياته خريطة زمنية مفصلة، وشعائر واضحة، ومقاصد سامية، تم طمسها عمدًا واستبدالها بمنظومة فقهية معقدة، حولت الحج من مؤتمر حضاري للأمة إلى مجرد طقوس فردية مرهقة. هذا الفصل سيتدبر آيات الحج ليكشف عن توقيتها الدقيق وشعائرها الحقة، ويزيل عنها طبقات التحريف التي تراكمت عبر القرون.

  1. "عشرة كاملة": القرآن يفك شيفرة التوقيت الزمني للحج

في قلب آية واحدة تعالج رخص الحج وكفاراته، يضع الله مفتاحًا زمنيًا دقيقًا للمناسك الأساسية، لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ ... فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... (البقرة: 196)
إن قول الله تعالى تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ليس مجرد إخبار بأن حاصل جمع ثلاثة وسبعة هو عشرة، فالله منزه عن هذا اللغو. بل هو تحديد إلهي بليغ للمدة الزمنية التي تقع فيها مناسك الحج الأساسية، والتي يجب على المتمتع غير القادر على الهدي أن يصوم خلالها. هذا يحدد لنا بوضوح أن ذروة موسم الحج، التي تبدأ منطقيًا مع بداية شهر "ذي الحجة"، تستمر "عشرة أيام كاملة". إن هذه الدقة التشريعية في الآية الواحدة تنجز عدة مهام في آن واحد: فهي تحدد حكم التمتع، وكفارته، وبديل الكفارة، وتفرق بين المقيم والمسافر، وفي خضم كل ذلك، تمنحنا الإطار الزمني للمناسك الرئيسية.
  1. إسقاط بدعة "يوم النحر" بالبرهان القرآني

إن هذا التحديد الزمني الدقيق ضمن آية الكفارات، يهدم من أساسه واحدًا من أكبر التحريفات العملية في الحج، وهو ما يسمى "يوم النحر" كواجب عام على كل حاج. فالمنطق القرآني يقتضي أنه لو كان هناك ذبح إجباري عام على كل الحجاج في يوم معين، لكان أولى بالذكر والتأكيد من تفصيل كفارة فئة معينة ومحدودة من الحجاج.
إن صمت القرآن المطبق عن هذا "الركن" المزعوم، في نفس السياق الذي يفصّل فيه بدقة متناهية ما هو أقل منه شأنًا، هو أقوى برهان على أنه شعيرة مبتدعة لا أصل لها في دين الله. لقد كان ابتداع هذا اليوم يخدم مصالح سياسية واقتصادية للسلطة الحاكمة، وعلى رأسها التهرب من مسؤولية إطعام الحجيج، وتصريف مواشيهم، وإخضاع الناس بسلطة تشريعية موازية لسلطة الله.
  1. خريطة الحج القرآنية: تسلسل منطقي ومرونة إلهية

ضمن هذه الأيام العشرة، وخلال "الأشهر المعلومات"، يرسم القرآن مسارًا واضحًا للحج يتسم بالمنطق واليسر:
• البداية والمحظورات: يبدأ الحج بعقد النية (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) والالتزام بالتروك الجوهرية التي تضبط السلوك: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (البقرة: 197).
• الوقوف بعرفات: هو التجمع الأعظم، والملتقى الذي يشهد فيه الناس "منافع لهم"، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية.
• الإفاضة والمساواة: بعد عرفات، تكون الإفاضة إلى المشعر الحرام. وهنا يؤكد القرآن على مبدأ المساواة المطلقة الذي ينسف كل تراتبية قبلية أو اجتماعية: أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (البقرة: 199). الكل سواسية أمام الله، يفيضون من مكان واحد.
• الطواف بالبيت العتيق: هو التتويج الأخير للمناسك، حيث يطوف الحجاج بالبيت ليتموا حجهم: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج: 29).
• المرونة الإلهية: وفي تشريع يعكس يسر الدين وواقعيته، يضيف القرآن بعدًا من المرونة في أيام ما بعد المناسك الكبرى، فيقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ (البقرة: 203). هذا يرفع الحرج ويناقض تمامًا فكر رواة السلطان المتشددون الذين يبطلون الحج لأدنى سبب، ويثبت أن الدين يسر لا عسر.
  1. المقاصد المنسية: حين يُفرَّغ الحج من محتواه

لقد كان الحج في جوهره القرآني أكبر مؤتمر عالمي سنوي، وموسمًا لتحقيق نهضة الأمة. كان ينبغي أن يكون:
• معرضًا اقتصاديًا وتقنيًا: تُعرض فيه أحدث الصناعات والابتكارات، تحقيقًا لقوله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (الحج: 28) و لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (البقرة: 198).
• ملتقى علميًا وثقافيًا: تتبادل فيه عقول الأمة وخبراتها المعارف والإنجازات، تحقيقًا لقوله تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (البقرة: 200)، الذي يهذب عادة التفاخر ويوجهها نحو شكر الله وذكر إنجازات الأمة التي تمت بفضله.
لكن للأسف، تم تفريغ هذا الموسم العظيم من محتواه الحضاري، وتحويله إلى مجرد طقوس فردية، بينما تُعقد المؤتمرات الاقتصادية والعلمية الكبرى في عواصم العالم الأخرى. لقد تم فصل الدين عن الدنيا، والعبادة عن المنفعة، والنسك عن العلم، وهي الجريمة الكبرى التي ساهمت في تخلف الأمة.
خاتمة الفصل
إن الحج في الميزان القرآني نظام متكامل، دقيق التوقيت، واضح المناسك، عظيم المقاصد. إنه يربط عبادة الله بشكره على نعمه، ويربط التقوى بتحقيق المنافع الدنيوية. لقد كانت استعادة التقويم الفصلي هي الخطوة الأولى لاستعادة "زمان" الحج، واستعادة هذه الشعائر والمقاصد القرآنية هي الخطوة الثانية لاستعادة "روح" الحج ومحتواه، وبذلك تستعيد الأمة أحد أهم أسباب قوتها وفلاحها في الدنيا والآخرة.

الفصل الثاني عشر: مفهوم الدين القرآني - من الطقوس إلى نظام الكون
مقدمة: جريمة الفصل بين العلم والدين
لقد عانت الأمة قرونًا طويلة من فصام نكد بين "العلم" و"الدين". وهي جريمة فكرية اشترك في ترسيخها طرفان: كتبة تراثيون حصروا "الدين" في مجموعة من الطقوس والأحكام الفقهية الضيقة، وتيار علماني وافق على هذا الحصر ليعزل الدين بدوره في زاوية الشأن الخاص، مفرغًا إياه من أي قدرة على بناء الحياة أو الحضارة.
والحقيقة أن هذا الفصل هو وهم محض. فالقرآن يقدم مفهومًا لـ "الدين" أشمل وأعمق بكثير. الدين في المنظور القرآني ليس مجرد شعائر، بل هو "نظام الدينونة" أو الخضوع الكلي والشامل لله، سواء في قانونه المنزّل في "الكتاب المسطور" أو في قانونه المبثوث في "الكتاب المنظور"، وهو الكون بأسره. هذا الفصل سيكشف عن هذا المفهوم القرآني الأصيل، ويثبت أن العلم التجريبي ليس غريبًا عن الدين، بل هو صميم دراسة هذا الدين الكوني وفهمه.

  1. "تعليم الله": الكتاب الكوني والكتاب المنزل

إن مصادر المعرفة الإلهية ليست محصورة في الوحي النصي وحده. فالله يعلمنا بطريقين متكاملين لا ينفصلان:
  1. الكتاب المنزل: وهو القرآن، الذي يضع المبادئ الكبرى والقيم الحاكمة والأصول التشريعية.
  2. الكتاب الكوني: وهو الكون وقوانينه ونواميسه، والذي ندركه بالعقل والتجربة والاستقراء.

والدليل على أن هذا العلم التجريبي هو "تعليم من الله" يأتي من آية قد يراها البعض هامشية، لكنها في الحقيقة قاعدة منهجية كبرى:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ... (المائدة: 4)
فإذا كان العلم المكتسب بالتجربة والتدريب والملاحظة لترويض كلب صيد هو علمٌ مما "علّمكم الله"، فمن باب أولى أن يكون علم الفيزياء الذي يفكك قوانين المادة، وعلم البيولوجيا الذي يقرأ شيفرة الحياة، وعلم الفلك الذي يتتبع مسارات النجوم، هو من صميم "تعليم الله" للإنسان. إنهما كتابان من مصدر واحد، يصدّق أحدهما الآخر.
  1. "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ": القرآن يؤسس لمناهج البحث العلمي

لم يكتفِ القرآن بتأصيل فكرة العلم، بل دفع الإنسان دفعًا وحثه حثًا على اتباع المنهج العلمي الاستقرائي لدراسة الكون من حوله. إن الأمر المتكرر "سيروا في الأرض" هو دعوة إلهية صريحة لتأسيس أعظم فروع العلم:
• علم نشأة الحياة والبيولوجيا التطورية:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ... (العنكبوت: 20) إن هذه الآية أمر مباشر بالبحث في أصل الحياة. ولو كانت هذه المسألة غيبًا مطلقًا لا يمكن إدراكه بالبحث والنظر، لما أمر الله بها. إنها إشارة إلى أن أصل الخلق له آثار وبصمات يمكن تتبعها في طبقات الأرض وفي الأحافير وفي الشيفرة الوراثية للكائنات، مما يدل على وحدة الصانع وعظمة الخلق. ومن المفارقات المحزنة أن الذي قام بهذه الرحلة حول الأرض ليحاول الإجابة على هذا السؤال هو "داروين" وليس علماء يقرأون هذه الآية كل يوم.
• علم الآثار والتاريخ وحضارات الأمم:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام: 11) هذا ليس مجرد وعظ، بل هو أمر بالبحث الأركيولوجي، والحفر في طبقات التاريخ، ودراسة سنن الله في قيام وسقوط الحضارات. إن دراسة كيف فنيت أمم عتيدة وقوية (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ)، وبقيت أمم مستضعفة، تكشف عن قوانين إلهية تتجاوز القوة المادية، وهو لغز لا يجيب عنه إلا منطق القرآن.
• علوم الأجنة والجيولوجيا والفلك: كذلك، يزخر القرآن بالإشارات الدقيقة التي تفتح أبواب البحث في هذه العلوم. من وصف مراحل خلق الإنسان من نطفة إلى علقة ثم مضغة، إلى وصف الجبال بأنها رواسي وأن لها ألوانًا مختلفة (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)، إلى وصف حركة الشمس والقمر وتكوير الليل على النهار، والنجوم والكواكب (البروج)، والثقوب السوداء (الخنس الجوار الكنس) والنجوم النيوترونية (النجم الثاقب). كل هذه الآيات ليست مجرد أمثلة، بل هي محفزات إلهية للعقل البشري ليكتشف ويتعلم.
  1. "لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ": من هم فقهاء الأمة الحقيقيون؟

في ظل هذا المفهوم الشامل لـ "الدين"، من هم "الفقهاء" الذين أمر الله طائفة من الأمة أن تتخصص في علمهم لتقوم بنهضتها؟
...فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122)
"لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ": من فقه الوسواس إلى فقه الناموس
إن الفهم القرآني الشامل لمفهوم "الدين" يضعنا أمام سؤال جوهري: إذا كان "الفقه في الدين" هو أعظم مهمة علمية وفكرية للأمة، فمن هم هؤلاء "الفقهاء" الذين أشار إليهم القرآن؟ إن الإجابة التي رسخها التاريخ التراثي و الكتبة الروائيون هي كارثة فكرية وأخلاقية، حوّلت الدين من نظام كوني عظيم إلى مجموعة من الوساوس الطقوسية التي لا قاع لها.
لقد تم اختطاف مصطلح "الفقه" النبيل على يد أقوام متأخرين، حرفوا دين الله عبر بوابة "شرك التشريع"، فجعلوا مع كلام الله مصادر بشرية متناقضة، من روايات ظنية وقياسات عليلة وإجماع ما ألفوا عليه آباءهم الضالين. فانظر إلى نتاج هذا الفقه المزعوم: لقد أرهقوا الأمة في أبسط شؤون الطهارة، فابتدعوا نواقض للوضوء لم ينزل بها الله من سلطان، بينما تجاهلوا الناقض القرآني الصريح والوحيد المتعلق بالإخراج، وهو "الغائط" (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ)، الذي يعني ببساطة قضاء الحاجة. وبدل هذا الوضوح، غاصوا في مستنقعات لغوية تافهة للفرق بين "الفساء" و"الضراط"، و"المذي" و"الودي"، وهل لمس الفرج بباطن الكف ينقض أم بظاهره؟ لقد حوّلوا الطهارة، التي هي رمز للنظافة والانطلاق، إلى سجن من الوسواس القهري.
ثم امتد هذا التحريف ليشوه مكانة المرأة، فادّعوا أن الحائض كائن نجس، مع أن القرآن لم يتناول في آية المحيض إلا حكمًا واحدًا محددًا وهو اعتزال الجماع (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)، ولم يأتِ من قريب أو بعيد على ذكر نجاسة جسدها أو صلاتها أو طهارتها العامة. لقد أخذوا من التشريعات اليهودية أسوأ ما فيها من هوس بالطهارة الشكلية، حتى بلغ بهم السفه أن يبحثوا في طهارة جثة النملة من عدمها!
وهنا تكمن المأساة الأخلاقية الكبرى. ففي الوقت الذي كان فيه هؤلاء "الفقهاء" يغرقون في نجاسة نملة، كانت هياكل وعظام آل بيت رسول الله وأصحابه الكرام لم تجف بعد من دماء مذابح كربلاء والحَرَّة ومكة، التي ارتكبها طواغيت بني أمية. فأي فقه هذا الذي يتورع عن لمس كلب، ولكنه يحلل ويشرعن ولاية من استباحوا أطهر الدماء في أقدس البقاع؟ أي فقه هذا الذي يحوّل نظام الشورى والعدل إلى "مُلك عضوض"، ثم يبارك هذا المُلك ويسبّح بحمده؟
إن هذا الفصام النكد بين الهوس بالطقوس والعمى عن الظلم، هو البرهان الدامغ على أن هذا الفقه ليس من دين الله في شيء. إن ادعاء أن هذه الكتب التراثية، المليئة بالشرك التشريعي والتناقضات الفقهية والانهيار الأخلاقي، هي "التفقه في الدين" لهو تحجيم وتحقير لكلام الله.
بل إن "الفقه في الدين" الحق هو ما أشرنا إليه: فهم "نظام الدينونة" الشامل، أي فهم قوانين الله وسننه الحاكمة في الكون وفي التشريع. وعليه، فإن "فقهاء الأمة" الحقيقيين، الذين هم ذخرها الاستراتيجي وقوتها الضاربة، ليسوا كهنوت الماضي أو الحاضر، بل هم: علماء الطبيعة والكون؛ الفيزيائيون والبيولوجيون والكيميائيون والمهندسون الذين يفهمون سنن الله في الخلق. هؤلاء هم الذين يملكون أسباب القوة الحقيقية، وهم الذين يدركون عظمة الخالق من خلال آياته الكونية. ولذلك، فإن أعداء الأمة لا يغتالون فقيه حيض ونفاس، بل يغتالون عالم الذرة والفيزياء، لأنهم يدركون جيدًا أن هذا هو "الفقيه" الذي يمثل الخطر الحقيقي على هيمنتهم، وهذا هو "الفقيه" الذي يمكنه أن يقود الأمة نحو نهضتها الحقيقية.
خاتمة: وحدة المعرفة سبيل النهضة
إن الخروج من التيه الحضاري يبدأ من هدم الفصل الوهمي بين العلم والدين. الدين الحق هو الذي يدعو للعلم، والعلم الحق هو الذي يكشف عن عظمة الدين وقوانينه. إن وحدة المعرفة التي يؤسس لها القرآن هي السبيل الوحيد للنهضة. فعندما نعيد الاعتبار لعلماء الكون باعتبارهم "فقهاء في الدين"، وعندما نحول مساجدنا وجامعاتنا إلى "بيوت" للعلم نأتيها من أبوابها، وعندما ننفق على البحث العلمي باعتباره "إنفاقًا في سبيل الله" يقينا من "التهلكة"، عندها فقط، نكون قد بدأنا نسير على الطريق الصحيح الذي رسمه لنا "التقويم الكوني" الإلهي.
الفصل الثالث عشر: صيام رمضان - تحريف الميقات والصفة
مقدمة: من عبادة اليسر إلى مشقة المذاهب
بعد أن كشفنا في الفصول السابقة كيف تم تحريف "زمان" الدين عبر فصل التقويم عن ناموس الكون، ننتقل الآن لنرى كيف امتد هذا التحريف ليشوه "صفة" العبادة نفسها. إن صيام شهر رمضان، الذي أنزله الله هدى ورحمة وتيسيرًا، قد تحول على يد فقه المذاهب التراثية الروائية إلى عبادة يسودها الهوس بالشكليات، والمشقة في التوقيت، والضياع في تحديد هوية الشهر نفسه. إن العقلية التي أضلت الأمة عن "شهر" رمضان الحقيقي، هي ذاتها التي أضلّتها عن "يوم" الصيام الحقيقي، وعن حدوده التي أنزلها الله.
  1. "حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ": تحريف ميقات الصيام اليومي

يضع القرآن بداية يوم الصيام ونهايته في إطار من الوضوح واليسر الحسي الذي يدركه كل إنسان:
...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ... (البقرة: 187)
إن الأمر الإلهي واضح: يبدأ الإمساك عن الطعام والشراب في اللحظة التي يتميز فيها ضوء الفجر الصادق عن ظلمة الليل، وهو وقت يمكن إدراكه بالعين المجردة. لكن فقه التشدد أبى إلا أن يضيف على أمر الله مشقة لم يأذن بها. فجعلوا بداية الصيام في عمق الليل البهيم، قبل هذا الوقت القرآني بما يقارب الساعة ونيف، في وقت يُعرف فلكيًا بـ"الفجر الكاذب"، وهو مجرد شفق خافت لا يتبين فيه خيط أبيض ولا نور. لقد شقوا على الناس فزادوا في مدة الصيام ظلمًا وزورًا، بدافع الغلو والتنطع، وبسبب منهجيتهم الفاسدة التي لا تثق في وضوح القرآن، بل تبحث دائمًا عن التعقيد والتشديد.
  1. تحريف صفة الصيام وحدوده

لم يقتصر التحريف على ميقات اليوم، بل امتد إلى جوهر الصيام وحدوده، فانقلب بين توسع في المحظورات وتساهل في المحرمات:
• أولًا: التوسع في المحظورات بقياسات عليلة لقد حصر القرآن مفطرات الصيام في ثلاثة أمور واضحة: الأكل، والشرب، والمباشرة الجنسية. لكن فقهاء القياس الفاسد، الذين نصبوا أنفسهم مشرّعين مع الله، توسعوا في هذه القائمة بلا دليل. فأدخلوا فيها أمورًا لا هي أكل ولا شرب، كقطرات العين، وبخاخات الربو، والحقن غير المغذية. لقد أرهقوا المرضى وأصحاب الأعذار بقياسات ما أنزل الله بها من سلطان، لأنهم ينطلقون من فقه الوسواس لا من فقه القرآن.
• ثانيًا: التساهل الخطير في "الرفث" في المقابل، وفي أمر يتعلق بجوهر الصوم وهو كبح الشهوة، نجد تساهلًا عجيبًا. فالقرآن يقول: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ، مما يعني أن "الرفث" محرم في نهار الصيام. والرفث لغويًا هو مقدمات الجماع وما يسبقه من غزل فاحش. فإذا كانت مقدمات الفعل اللفظية محرمة، فمن باب أولى أن تكون مقدماته الفعلية من "المباشرة" و"التقبيل" محرمة. لكننا نجد في فقههم من يحل هذه المباشرة في نهار رمضان ما لم تصل إلى الإنزال، وهو قول خطير يناقض مقصد الصيام في التحكم بالنفس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ويفتح بابًا للفتنة لمن "لا يملكون إربهم".
  1. تحريف رمضان نفسه: جريمة إضاعة ليلة القدر

إن المأساة الكبرى لا تكمن في تحريف يوم الصيام وصفته فحسب، بل في تحريف "شهر" الصيام ذاته، وهو ما يفقد العبادة معناها وغايتها العظمى. وكما فصّلنا في هذا الكتاب، فإن رمضان هو شهر "الرمضاء" وبداية موسم الحر، وهو شهر ثابت في التقويم الفصلي.
إن جريمة فصل رمضان عن وقته الكوني، وجعله شهرًا دوارًا، قد أدت إلى كارثة روحية لا تقدر بثمن: إضاعة ليلة القدر. لقد أصبحت الأمة، التي أنزل الله عليها كتابًا يهدي للتي هي أقوم، تتخبط في الظلام بحثًا عن ليلة وصفها ربها بأنها "خير من ألف شهر". وبدل أن تعرفها بيقين وتحييها بحقها، حُرمت من هذا الفضل العظيم، وصارت تقضي العشر الأواخر في تحرٍّ وتخمين، في كرب وحسرة على ضياع أعظم منحة إلهية.
خاتمة: من يضل عن الزمان، يضل عن العبادة
إن الضلال في فقه الصيام هو نتيجة حتمية ومنطقية للضلال في فهم الزمان والمنهج. فالذي يهجر القرآن كمصدر أول ومهيمن، والذي يفصل الدين عن ناموس الكون، والذي يستبدل يسر الله بمشقة التراثيون والروائيون المتأخرون، لا بد أن يصل إلى هذه النتيجة: صيام يبدأ قبل وقته، وحدود تتوسع وتضيق بالهوى، وشهر عظيم يضيع في فوضى التقويم الدوار. إن استعادة صيام رمضان الحق لا تكون إلا باستعادة رمضان نفسه إلى وقته الكوني، واستعادة القرآن إلى مكانته كحاكم وحيد على كل تشريع.
الفصل الرابع عشر: فقه الصلاة - بين الإجماع المحفوظ والتحريف المحدود
مقدمة: الصلاة الحصن الذي لم يسلم من الاختراق
تعتبر الصلاة، بعمادها اليومي والجماعي، أكثر أركان الدين حفظًا من التحريف الكلي. فبينما تمكنت عقلية التراثيين من إحداث انقلابات كبرى في مفاهيم التقويم والحج والصيام، بقيت هيئة الصلاة العامة عصية على التبديل الجذري، وذلك بفضل آلية قرآنية عظيمة وهي "الإجماع العملي" أو التواتر الفعلي الذي أمر به القرآن نفسه في قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.
ولكن، ورغم هذا الحفظ العام، فإن الحصن لم يسلم من الاختراق. لقد تسلل التحريف إلى ما هو أخطر من الهيئة، فتلاعبوا في "مواقيت" الصلاة، وأغرقوا "صفتها" في بحر من الوساوس والتنطع، مما أبعدها عن يسرها القرآني ومقاصدها الروحية. هذا الفصل سيميز بين ما حُفظ بالتواتر وما حُرّف بالرأي، معيدًا الصلاة إلى ميزانها القرآني.
  1. المواقيت الخمسة في كتاب الله: فك شيفرة الوصف القرآني

لقد حدد القرآن مواقيت الصلاة بأوصاف كونية دقيقة، لا تحتاج إلا إلى تدبر للغتها ومراقبة للطبيعة. إنها خمسة مواقيت واضحة في كتاب الله:
• صلاتا الغروب والعشاء (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ): إن "دلوك الشمس" ليس وقت زوالها عند منتصف النهار كما ذهب المفسرون، فاللغة لا تسعفهم. "الدلك" هو إزالة الأثر والثقل، كمن "يدلك" السيف فيصقله. ودلوك الشمس هو تلك اللحظة التي "تُدلك" فيها أشعتها الحارقة وتفقد وهجها، وهو وصف فيزيائي دقيق للحظات التي تسبق الغروب مباشرة. ثم يأتي "غسق الليل"، وهو دخول الظلمة، ليكون وقت صلاة المغرب. ولكنهم، بحديث خيالي عن "قرن الشيطان"، نهوا عن الصلاة في وقت الدلوك، وهو عين الوقت الذي أمر فيه القرآن بالتسبيح قبل الغروب.
• صلاة الفجر (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ): "الفجر" لغة وكونًا هو لحظة "تفجر" الضوء وبداية تمايزه عن ظلمة الليل. إنه وقت يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. لكن فقه التشدد جعلها صلاة في "عمق الليل البهيم"، حتى إن المصلين يخرجون منها والظلام لا يزال حالكًا، وهو توقيت لا يمت لعلم الفلك أو لوصف القرآن بأي صلة.
• صلاتا الظهر والعصر (طَرَفَيِ النَّهَارِ): وهنا يكمن أحد أدق الأوصاف القرآنية وأكثرها تعرضًا لسوء الفهم. إن "النهار" ليس مجرد الوقت بين الشروق والغروب، بل هو ظاهرة فيزيائية تحدث نتيجة تشتت ضوء الشمس في الغلاف الجوي للكوكب. لهذه الظاهرة ذروة قوة ضوئية وحرارية، ثم تبدأ بالانحدار. إن "طرفي النهار" ليسا أوله وآخره، بل هما طرفا هذه الذروة، أي وقتا الظهر والعصر. والبرهان اللغوي من داخل القرآن نفسه يقطع كل جدل:
...وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ... (طه: 130) فلو كانت "أطراف النهار" تعني "قبل الشروق وقبل الغروب"، لما كان هناك أي حاجة لذكرها مرة أخرى في نفس الآية، ولكان ذلك من التكرار الذي يتنزه عنه كلام الله. إنه دليل دامغ على أن "طرفي النهار" هما وقتان متميزان داخل النهار نفسه. ومن العجيب أن نرى إجماع المفسرين على خطأ لغوي ومنطقي واضح، مما يدل على أنهم ورثوا الفهم دون تدبر.
  1. صفة الصلاة: بين الهيئة القرآنية والوسواس الفقهي

لقد بيّن القرآن الهيئة العامة للصلاة بتسلسل منطقي: قيام، يتبعه ركوع، يتبعه سجود (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا). هذه هي الأركان الحركية الأساسية. أما التفاصيل الدقيقة، فقد أغرقها الفقهاء في بحر من الخلافات والتنطع الذي يشوه روح الخشوع: فمنهم من يضع يده على صدره ويكره وضعها على بطنه، ومنهم من يفعل العكس، وغاصوا في تفاصيل حركة الأصبع وكيفية النهوض، وكأن الإنسان آلة تؤدي حركات مبرمجة لا روح فيها. إن القرآن ترك هذه التفاصيل عمدًا، لأن الغاية هي تحقيق خضوع الجسد بتناغم مع خشوع القلب، لا أداء حركات روبوتية.
  1. "وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ": الإجماع العملي هو الحجة

إذاً، كيف نعرف تفاصيل الهيئة التي لم يفصلها القرآن؟ الجواب يأتي من القرآن نفسه الذي أسس لآلية "التواتر العملي" كمصدر للمعرفة التطبيقية. إن أوامر مثل وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، و وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وقوله بعد تعليم صلاة الخوف فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُอนُوا تَعْلَمُونَ، كلها تشير إلى أن هيئة الصلاة تُتلقى وتُحفظ من خلال الممارسة الجماعية الحية للأمة، جيلًا بعد جيل. فالقرآن يعطي المبادئ والأركان، والتواتر العملي يحفظ الهيئة العامة. وجريمة التراثيون لم تكن في أصل الهيئة، بل في تحريف المبادئ (المواقيت) وإغراق الهيئة بالوساوس.
خاتمة: الصلاة جماعةً رغم الاختلاف
إن إدراك هذه التحريفات المحدودة لا ينبغي أن يدفعنا إلى اعتزال جماعة المسلمين. فالأمر بـ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ يظل قائمًا. والفروق في التوقيتات، مع خطورتها، تظل طفيفة مقارنة بأصل الفريضة. ويمكن للمؤمن المتدبر أن يحافظ على الصلاة مع الجماعة، ثم يؤدي ركعتين في وقت الفجر الصادق الحقيقي منفردًا ليجمع بين الحسنيين: وحدة الصف، وصحة العبادة. إننا نبرأ من المنهج الخاطئ، ولكننا لا نكفّر الأعيان، فالحكم على القلوب لله وحده، ونحن مأمورون بالصلاة مع عموم من يتجه إلى القبلة، مدركين أن في الأمة مؤمنين ومخطئين، وأن الهداية بيد الله.

الفصل الخامس عشر: حكمة السكوت القرآني عن عدد الركعات - بين التيسير والإجماع
مقدمة: هل أغفل القرآن عدد الركعات؟
كثيرًا ما يطرح كهنوت التقليد، ومن ورائهم المشككون في كفاية القرآن، سؤالاً يظنونه قاصمًا: "إذا كان القرآن كتابًا مفصلاً، فلماذا لم يذكر عدد ركعات كل صلاة؟" والجواب على هذا السؤال لا يكشف نقصًا في القرآن، بل يكشف عن عمق الحكمة الإلهية، وكمال التشريع الذي يوازن بين الثوابت العقدية والمرونة العملية. إن سكوت القرآن عن تحديد عدد الركعات ليس إغفالاً، بل هو عين التيسير، وتأسيسٌ لمصدر معرفي حيوي دلّ عليه القرآن نفسه.

  1. "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ": حكمة التيسير في عدد الركعات

إن الغاية الأولى من عدم تحديد عدد الركعات نصًا هي فتح باب "التيسير" و"القصر" في الصلاة، وهو تشريع إلهي ثابت في حالات السفر أو المرض أو الخوف. فلو نص القرآن على أن الظهر "أربع ركعات"، لصار هذا النص قيدًا يصعب الخروج منه، ولكان القصر استثناءً يحتاج إلى تبرير متكلف. لكن بسكوته عن العدد، جعل القرآن الهيئة الكاملة هي الأصل في الأحوال العادية، وجعل التخفيف هو الأصل في الأحوال الطارئة، دون حرج أو تأثيم.
والقرآن نفسه يشير إلى هذه المرونة، فهو يصف صلاة الخوف التي يمكن أن تصل إلى ركعة واحدة، كما يصف أقصى درجات التيسير في قوله:
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا... (البقرة: 239) في هذه الحالة القصوى من الكر والفر في القتال، تسقط هيئة الصلاة الحركية بالكامل، وتسقط القبلة، وتبقى "الهيئة القلبية" من الذكر والتوجه إلى الله. فإذا كانت الهيئة بأكملها تسقط للعذر، فمن باب أولى أن يكون عدد الركعات، وهو جزء من هذه الهيئة، قابلاً للتخفيف.
  1. "وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ": الإجماع العملي هو المصدر

إذاً، من أين جاءت أعداد الركعات المعروفة (أربع للظهر والعصر والعشاء، وثلاث للمغرب، واثنتان للفجر)؟ الجواب هو من المصدر الثاني الذي أقره القرآن نفسه وهو: الإجماع العملي المتواتر. لقد أمرنا الله أن نكون جزءًا من جماعة المسلمين المصلين: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (البقرة: 43). وأمرنا بإقامة الصلاة في بيوت الله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (النور: 36). وأمرنا بتوجيه وجوهنا للعبادة عند كل مسجد: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (الأعراف: 29). إن هذه الأوامر تعني أن هيئة الصلاة وعدد ركعاتها هي شأن عام، يُتلقى بالمشاهدة والممارسة جيلاً عن جيل، في سلسلة متصلة لم تنقطع. فالأصل أن عدد الركعات ثابت ومعروف بهذا التواتر العملي الذي لا يمكن لمجموعة من الناس أن تتفق على الكذب فيه.
  1. التمييز المنهجي: لماذا لا يعد هذا الإجماع شركًا؟

وهنا يجب أن نضع حدًا منهجيًا فاصلاً. قد يقول قائل: "أليس هذا اعتمادًا على مصدر خارج القرآن؟" والجواب: كلّا. إن "شرك التشريع" المذموم هو أن يبتدع البشر حكمًا لم يأذن به الله، أو يعارضون به حكم الله. أما حين يأمر القرآن نفسه باتباع طريقة معينة لمعرفة تفصيل ما، فإن اتباع هذه الطريقة هو "عين الطاعة للقرآن".
• فحين قال الله إن الحج أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، فقد أحالنا إلى العلم والمعرفة السائدة والثابتة بتلك الأشهر.
• وحين قال عن الأهلة وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فقد أحالنا إلى علم الفلك المتخصص.
• وحين قال وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، فقد أحالنا إلى "الإجماع العملي" للأمة في معرفة هيئة الصلاة.
فالأخذ بهذا الإجماع في هذه المسألة تحديدًا ليس شركًا، بل هو تحقيق لأمر قرآني.
  1. لطيفة عددية مؤيدة

ومما يزيد القلب طمأنينة، وإن لم يكن دليلاً مستقلاً، هو هذا التوافق العددي المذهل في القرآن:
• إن لفظ الأمر المباشر "أَقِمِ الصَّلَاةَ" ورد في القرآن 5 مرات، وهو نفس عدد الصلوات المفروضة.
• وإن صيغ الأمر "أَقِمْ" و"أَقِيمُوا" وردت مجتمعة 17 مرة، وهو نفس عدد الركعات الإجمالي في اليوم والليلة (2+4+4+3+4). إنها لطيفة قرآنية عددية، كبصمة إلهية خفية، تؤيد ما استقر عليه التواتر العملي للأمة.
خاتمة: حكمة السكوت وكمال الدين
إن سكوت القرآن عن النص الصريح على عدد الركعات ليس نقصًا، بل هو كمال. إنه كمال الدين الذي يجمع بين النص الثابت والمرونة العملية، بين المبدأ الإلهي والتطبيق الجماعي. إنه دليل على ثقة الله في منهجه الذي يحفظ دينه عبر النص والتواتر معًا، ودليل على رحمته التي أرادت اليسر لا العسر، والجوهر لا الشكل، والخشوع لا التنطع.
ملحق الفصل: حين تعجز "السنة" عن تقديم الدليل الجامع
قد يعترض معترض من أهل التقليد على منهجنا القرآني، فيقول: "إنكم تعتمدون على الإجماع العملي في تحديد هيئة الصلاة وعدد ركعاتها، وهذا إقرار بحاجتكم لمصدر خارج القرآن". وهذا الاعتراض، الذي يبدو للوهلة الأولى قويًا، هو في حقيقته يكشف عن مفارقة كبرى وهشاشة في منهجهم هم، لا في منهجنا.
إنهم ينتقدون القرآن لعدم وجود نص واحد "جامع مانع" يفصّل هيئة الصلاة، ويلجؤون إلى ما يسمونه "السنة" كبديل. والعجيب أن مصدرهم هذا يعاني من ذات "النقص" الذي يتهمون به القرآن، بل وأشد. فنحن نتحدى أي باحث أن يأتينا بحديث واحد صحيح متواتر يقول فيه النبي: "صلاة الفجر ركعتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، وفي كل ركعتين تشهد تقولون فيه كذا، وبعد الركوع تقولون كذا، وتضعون أيديكم هكذا...".
إن هذا النص الجامع المانع غير موجود على الإطلاق في كل كتبهم. كل ما لديهم هو روايات متفرقة، وآحادية، وكثيرًا ما تكون متناقضة. ففي مسألة واحدة كتحريك الأصبع في التشهد، تجد في نفس الكتاب حديثًا يأمر بتحريكها، وآخر ينهى عن ذلك، حتى إنهم يتهمون رواتهم الثقات بـ"قلب" الرواية وتغيير معناها بالكامل. فأي مصدر تشريعي هذا الذي يُتّهم فيه رواته، الذين هم أساس بنيانه، بالقدرة على تحريف المعنى بهذا الشكل؟
والحقيقة الدامغة أن المصدر الحقيقي الذي تعلم منه كل مسلم الصلاة، بمن فيهم فقهاء التقليد أنفسهم، هو الإجماع العملي المتواتر. اسأل أي طفل في أي بقعة من بقاع الأرض الإسلامية: "كيف تعلمت الصلاة؟". لن يقول لك أبدًا: "تعلمتها من حديث رقم كذا في صحيح البخاري". بل سيقول: "علمني أبي"، أو "قلّدت الناس في المسجد". إن الصلاة، كهيئة حركية، تُتلقى بالمشاهدة والتقليد والممارسة، في سلسلة حية لم تنقطع.
وهذا ليس بدعًا في دين الله، بل هي آلية معتمدة حتى في تلقي القرآن نفسه. فكل قواعد التجويد من غنة وإدغام وإخفاء لا يمكن تعلمها من نص مكتوب، بل لا بد من سماعها وتلقيها مشافهة من قارئ متقن. فالإجماع العملي التواتري حجة معتبرة أشار إليها القرآن، وهو دليلنا ودليلهم، ولكنهم يكابرون.
وهنا تكمن المفارقة: بعد أن يتلقى المسلم الصلاة بهيئتها العامة المتواترة، يأتيه فقيه التقليد ليغرقه في بحر من الخلافات التافهة والوساوس التقعرية في تفاصيل لم ينزل بها الله من سلطان، فيضيع جوهر الصلاة في خضم الجدل حول موضع اليد ومكان النظر وحركة الأصبع.
بل إن الكارثة أكبر من ذلك. فإن التحريفات الحقيقية التي وقعت في "مواقيت" الصلاة لم تأتِ إلا من رحم هذه الروايات المتفرقة المنسوبة للسنة. فالحديث الغريب الذي ينهى عن الصلاة وقت الشروق والغروب، وهو وقت أمر فيه القرآن بالتسبيح والتأمل، هو من رواياتهم. ونقل صلاة الفجر من وقت تفجر الضوء إلى عتمة "الفجر الكاذب" هو من اجتهاداتهم المبنية على فهم خاطئ لرواياتهم.
فثبت إذًا أن "الإجماع العملي" هو الحجة على الجميع في معرفة هيئة الصلاة، وأن سكوت القرآن عن التفاصيل هو حكمة وتيسير، وأن "السنة" المزعومة لم تفشل فقط في تقديم نص جامع، بل كانت هي نفسها مصدرًا لبعض أهم التحريفات التي طالت هذه الشعيرة العظيمة.
الفصل السادس عشر: فقه الزكاة - بين نظام القرآن الاقتصادي وتحايل التراثيون
مقدمة: الزكاة، دورة الحياة الاقتصادية
الزكاة في المنظور القرآني ليست مجرد صدقة فردية، بل هي الفريضة العظمى التي تمثل قلب النظام الاقتصادي والاجتماعي الإسلامي. إنها بمثابة دورة المطر الكونية؛ فكما تتبخر مياه البحار لتتكثف في السحاب ثم تعود غيثًا يحيي الأرض الميتة، كذلك تُجمع "فوائض" الثروة من الأمة لتعود إليها سيولة ورواجًا وقوة، فتزكي المجتمع من الفقر، وتزكي الأفراد من مرض الشح، وتحمي الاقتصاد من الكساد والتضخم. إنها نظام إلهي يحقق التوازن، فيمنع تكدس الثروة في أيدي قلة، دون أن يجحف بحق الملكية الفردية كما تفعل الأنظمة اليسارية.
لكن هذا النظام القرآني العظيم تم تفريغه من محتواه، وتجريده من قوته، على يد "كهنوت البلاط" الذي صاغ فقهًا جديدًا للزكاة يخدم مصالح أسياده من الحكام الأغنياء، ويحمي ثرواتهم من الحق المعلوم للسائل والمحروم.
  1. نظام الزكاة القرآني: البساطة والفعالية

إن نظام الزكاة في القرآن، على عظم أثره، يتسم بالبساطة والوضوح في أركانه الثلاثة: المقدار، والمصارف، والمبدأ الحاكم.
• أولًا: المقدار - "العفو" وخُمس "المغنم" حين سُئل النبي عن مقدار الإنفاق، جاء الجواب القرآني قاعدة عامة: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلِ الْعَفْوَ (البقرة: 219). والعفو هو ما زاد عن الحاجة والكفاية. لكن القرآن لم يترك الأمر تقديريًا بالكامل، بل حدد النسبة الدقيقة في آية هي المرجع الأساسي للمغانم والأرباح:
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ... (الأنفال: 41) إن "الغنيمة" أو "المغنم" لغويًا لا تقتصر على غنائم الحرب، بل تعني كل ربح وكسب، وهي مشتقة من "الغنم"، أشهر رؤوس الأموال لدى العرب وقت نزول القرآن. وعليه، فإن مقدار الزكاة هو الخُمس، أي 20% من صافي الربح أو الدخل السنوي. وهي ضريبة واحدة، بسيطة، وفعالة، تؤخذ من المنبع، وتلغي كل الضرائب المركبة التي ترهق كاهل المجتمع (كضرائب العقارات والمبيعات والجمارك). وبمجرد تزكية المال مرة، لا يعاد الأخذ منه، تحقيقًا للعدل ومنعًا للازدواج الضريبي.
• ثانيًا: المصارف - توجيه الثروة لنهضة الأمة إن مصارف الزكاة المذكورة في نفس الآية هي مصارف استراتيجية، لا يمكن الخروج عنها لتمويل قصور الحكام ورحلاتهم ومشاريعهم الترفيهية. وعلى رأسها:
o لله: ويشمل كل ما هو في سبيل الله لرفعة الأمة، وعلى رأسه "البحث العلمي" الذي هو أساس القوة والمنعة.
o للرسول: ويشمل شؤون الرسالة، من طباعة ونشر لكتاب الله، وتأسيس لمراكز العلم التي تدرس علومه.
o وبقية المصارف: من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، لتغطية الحاجات الأساسية للمجتمع من صحة وتعليم ورعاية اجتماعية.
• ثالثًا: "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا": نقيض الزكاة ومبطل أثرها لا يكتمل نظام الزكاة إلا بتحريم نقيضه المطلق: الربا. فالزكاة هي ضخ للسيولة في شرايين الاقتصاد، والربا هو سحب لهذه السيولة وتكديسها في خزائن المرابين. الزكاة تحفز الإنتاج، والربا يكبح جماحه ويرهق أصحاب المشاريع. الزكاة توزع الثروة، والربا يراكمها فتحدث الكساد والتضخم، فيعيش المجتمع كله في ضنك، ويأكل التضخم ما ظن الأغنياء أنهم ربحوه بالربا.
  1. تشريعات بني أمية: كيف تم تفريغ الزكاة من محتواها؟

أمام هذا النظام القرآني العادل والقوي، قامت السلطة الأموية، عبر كهنوتها، بتصميم نظام بديل مشوه، هو أشبه بمسرحية هزلية للتهرب من الواجب:
• التحريف الأول: من "الربح" إلى "المال الراكد" لقد تجاهلوا تمامًا فكرة تزكية "المغنم" والدخل، وحصروا الزكاة في "المال الراكد" الذي يبقى عامًا كاملاً دون حركة (الحولان على الحول). وهذا بحد ذاته إعفاء لأصحاب رؤوس الأموال الدوارة والتجارات الكبرى.
• التحريف الثاني: ابتداع الحيل الشيطانية حتى هذا التشريع الهزيل، فتحوا فيه أبوابًا للتحايل، فأفتوا للمرأة التي تملك أطنانًا من الذهب والفضة أن ترتديه كـ "حلي" لتسقطه من وعاء الزكاة، في تحايل "سبتي" مفضوح على معنى "الكنز" الذي توعد الله من يكنزونه بالعذاب الأليم.
• التحريف الثالث: نسبة الـ 2.5% المضحكة أما الكارثة الكبرى، فهي النسبة التي وضعوها على هذا المال الراكد بعد كل الحيل: اثنان ونصف بالمئة (2.5%)! نسبة هزيلة لا يعرف أحد من أي شيطان أوحيت إليهم، وهي مجرد "ذر للرماد في العيون"، لا تزكي مجتمعًا ولا تسد حاجة فقير. أما على الزروع، فقد رفعوها قليلاً إلى 5% أو 10%، لأنها لم تكن تمثل عصب ثروة حكامهم.
خاتمة: استعادة الزكاة لاستعادة الاقتصاد
إننا أمام نظامين لا يلتقيان: نظام قرآني بسيط، عادل، قوي، ومصمم لبناء أمة منتجة ومجتمع متكافل. ونظام كهنوتي معقد، ظالم، هزيل، ومصمم لحماية الأغنياء وإفقار الفقراء. إن أي حديث عن نهضة اقتصادية أو عدالة اجتماعية في بلاد المسلمين يبقى وهمًا ما لم يتم هدم هذا الصنم الفقهي الموروغ، والعودة إلى نظام الزكاة القرآني الصافي، الذي هو شريان الحياة الحقيقي للأمة.
الفصل السابع عشر: فريضة الجهاد - بين قتال الفتنة وغزوات النهب
مقدمة: استعادة الجهاد من خاطفيه
ما من فريضة في دين الله تعرضت للاختطاف والتشويه مثل فريضة الجهاد. لقد تم اختطافها على يد فريقين: أعداء الإسلام في الخارج الذين صوروها كمرادف للإرهاب وسفك الدماء، وطواغيت الداخل وكهنوتهم الذين حولوها إلى آلة للغزو والنهب والسبي، وإلى سوط لجلد المخالفين في الداخل. والحقيقة أن الجهاد القرآني يقف على النقيض التام من كليهما. هذا الفصل سيعيد فريضة الجهاد إلى ميزان القرآن، ليميز بين قتال الفتنة الذي شرعه الله، وغزوات النهب التي ابتدعها بنو أمية ومن سار على نهجهم.
  1. "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا": فلسفة الجهاد القرآني

إن المؤمن، بطبيعته التي فطرها الله عليها، كائن محب للحياة والسلام، يكره سفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل. ولذلك، كان القتال في أصله "كرهٌ" للمؤمنين. ولم يؤذن فيه إلا كضرورة قصوى، وكعلاج لمرض أشد فتكًا، وهو "الفتنة"، أي اضطهاد الناس وإكراههم على ترك دينهم.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج: 39) ...وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ... (البقرة: 191)
إن فلسفة الجهاد في القرآن تقوم على أسس أخلاقية صارمة:
• الغاية: ليس إكراه الناس على الإسلام (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، بل قتال "أئمة الكفر" الذين يمارسون هم الإكراه، وذلك لتأمين حرية الاعتقاد للجميع.
• الطبيعة: هو قتال دفاعي لرد العدوان ونصرة المستضعفين، وليس غزوات توسعية للاستيلاء على أراضي الغير.
• الزمان: محرم في الأشهر الحرم، في أوقات الحصاد والتجارة. وهذه الحرمة ليست مجرد طقس، بل لها حكمة بالغة: ليعلم العدو أن المسلمين لا يقاتلونهم على دنياهم، ولإعطاء فرصة للسلام والمراجعة، ولتهذيب نفس المؤمن لئلا يتحول قتاله إلى غارة ونهب.
• الأخلاق: إنه قتال تعبدي له قوانين توقيفية. فلو استجار بك أحد المشركين المحاربين، وجب عليك أن تجيره وتؤمنه وتسمعه كلام الله ثم تبلغه مأمنه، حتى لو كان قد قتل أخاك في المعركة. ولو أسلم الأسير، صار "أخًا في الدين" له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. فأي دين أعظم من هذا؟
  1. "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا": تحريف الجهاد في العصر الأموي

إن هذا النموذج القرآني النقي يقف على النقيض التام من الممارسة الأموية. لقد قامت الدولة الأموية على أنقاض الشورى، وحولت الأمر إلى "مُلك عضوض"، واعتمدت على نموذج اقتصادي طفيلي قائم على الغزو. ولا يمكن لجيوش ارتكبت ما ارتكبته أن تكون جيوشًا مجاهدة في سبيل الله. فالشجرة تعرف من ثمارها:
• العدوان الداخلي: لقد استباح جيش يزيد بن معاوية مدينة رسول الله ثلاثة أيام، في مذبحة "الحَرَّة" التي يندى لها جبين التاريخ، من قتل واغتصاب لنساء المهاجرين والأنصار. وقتلوا الحسين حفيد النبي وآل بيته في كربلاء. وحاصروا مكة وضربوا الكعبة بالمنجنيق وصلبوا عبد الله بن الزبير. فجيش يفعل هذا بأهل القبلة وأقدس مقدساتها، ماذا يُتوقع منه أن يفعل بغيرهم؟
• الغزوات التوسعية: كانت توسعاتهم تفتقر إلى "البركة"، فلم تكن تحمل سرايا دعوية تترجم القرآن وتدعو الناس بالحكمة، بل كانت ترتكز على القوة العسكرية والسبي والنهب، حتى إنهم فقدوا ما فتحوه سريعًا كما حدث في الأندلس.
3

فقه النهب: تشريع "نكاح السبايا" وإباحة الاغتصاب
لتبرير هذا النموذج الاقتصادي الطفيلي القائم على الغزو، احتاجت السلطة الأموية إلى غطاء فقهي يضفي شرعية دينية زائفة على جرائمها. فابتدع لهم كهنوت البلاط ما يسمى بـ "نكاح السبايا"، وهو غطاء خبيث ومصطلح ملطّف لجريمة اغتصاب النساء اللاتي يتم أسرهن في الحروب. وهذا التشريع المبتدع لا يصطدم فقط مع المبادئ العامة للعدل والرحمة، بل يصطدم بشكل مباشر وصريح مع نصوص قرآنية تفصيلية ودقيقة.
إن القرآن الكريم يضع شروطًا واضحة للنكاح، منها الإيمان (في أغلب الحالات)، والرضا المتبادل، وتقديم المهر. فكيف يتم تجاوز كل هذا لنكاح امرأة مشركة أو كتابية بالإكراه ودون رضاها أو مهرها؟ لكن البرهان القاطع الذي ينسف هذه الفرية من جذورها يكمن في تشريع القرآن نفسه المتعلق بزواج "الأَمَة" المملوكة، والذي يضع عليها قيودًا أشد، لا أخف. يقول الله تعالى:
...فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ... (النساء: 25)
وهنا يكمن مفتاح كشف التحريف في كلمة "أَهْلِهِنَّ". قد يجادل المبررون للهمجية بأن "أهلها" هنا هم "مالكوها" أو "سادتها". وهذا تلاعب وتحريف للمعنى القرآني الواضح، فالقرآن يستخدم كلمة "الأهل" بشكل ثابت ومطرد لتعني أقرباء الدم والنسب والعشيرة. والنماذج القرآنية على ذلك أكثر من أن تحصى:
• فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ... (النمل: 57): فأهل لوط هم بناته، أي قرابته من الدم.
• إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (مريم: 16): فمريم اعتزلت أهلها وعشيرتها.
• إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا... (القصص: 29): فأهل موسى هم زوجته وأسرته.
فكلمة "أهلها" في آية نكاح الأَمَة تعني بشكل قاطع أسرتها وعشيرتها التي أُخذت منها، وليس سيدها الذي يملكها. إن القرآن، في عمق عدالته ورحمته، يحفظ للأَمَة كرامتها الإنسانية وصلتها بأصلها، فلا يبيح نكاحها إلا بموافقة أهلها الأصليين.
وهنا تتجلى الجريمة التشريعية بحجمها الكامل: إذا كان نكاح "أَمَةٍ مؤمنةٍ"، وهي في مرتبة أدنى من الحرة في الأحكام الاجتماعية، يتطلب هذا الشرط الإضافي الصعب وهو أخذ الإذن من أهلها وقرابتها، بالإضافة إلى رضاها ومهرها... فكيف، وبأي منطق شيطاني، يُباح اغتصاب "امرأة حرة" وقعت في الأسر، وانتهاك عرضها دون رضاها، ودون مهر، ودون أي اعتبار لأهلها أو لكرامتها الإنسانية؟!
إن "سبايا" الحرب من النساء والأطفال هم في حكم "المساكين" الذين يجب على الدولة المسلمة أن تحسن إليهم وتكرمهم وتوفر لهم الأمان، لا أن تستعبدهم وتهتك أعراضهم. إن فقه "نكاح السبايا" ليس فقهًا، بل هو تقنين للشهوة والوحشية تحت ستار الدين، وهو أبعد ما يكون عن شريعة الله العادلة والرحيمة.
الخاتمة: من أجل إخلاص الدين لله
لقد بدأنا هذا البحث بسؤال قد يبدو للوهلة الأولى مسألة فلكية تاريخية محضة: ما الفرق بين "الكبس" العلمي و"النسيء" السياسي؟ ومن هذا الخيط الرفيع، لم نكن نتصور أننا إذ نسحبه، سينفرط أمامنا عقد كامل من التحريف، وتتكشف طبقات هائلة من الضلال غطت على كل شيء. لقد كانت رحلتنا أشبه بمن يزيل حجرًا صغيرًا عن مدخل كهف، ليجد نفسه فجأة أمام عالم سفلي شاسع من الظلمات.
فالمسألة لم تكن مجرد أمة أخطأت في حساب زمانها، بل أمة تم إبعادها قسرًا عن كل شيء: عن زمانها الكوني، وعن أصول دينها وفروعه، وعن وعيها بذاتها، وعن مفاهيمها الجوهرية عن الله والعلم والحياة. لقد وجدنا أن الصلاة التي يصليها الناس اليوم ليست كصلاة الرعيل الأول في مواقيتها، والزكاة ليست كالزكاة في مقدارها ومقاصدها، والطهارة ليست كالطهارة في يسرها، وحتى الجهاد والنكاح والصيام، كلها قد طالتها يد التبديل والتغيير.
إن هذا التحريف الشامل لم يأت من فراغ. لقد جاء من مصدر تشريعي مسموم، هو ما يسمى بـ "التراث"، سواء كان سنيًا أم شيعيًا. هذا المصدر، الذي تم رفعه فوق القرآن أو جعله حاكمًا عليه، قد تسلل بسمّه إلى كل شعاب الوعي، فبدّل الأصول والفروع، حتى وصلت أمتنا إلى ما هي عليه اليوم: حالة من الانكفاء الحضاري، والضعف المهين، والتخبط الذي لا آخر له، والارتكاس في قعر الأمم منذ عقود وعقود.
والكارثة الكبرى، والمفارقة المحزنة، أن كل هذا حدث ونحن نحمل بين أيدينا "أهدى كتاب" و"أعظم نور". لكنه نور مطفأ، وكتاب مهجور. وكأنما نرى بأعيننا اليوم شكوى الرسول يوم القيامة، التي سجلها القرآن خالدة:
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 30)
وهنا نضع أيدينا على حقيقة المشكلة وجذر الداء. إن أزمتنا ليست في أننا "تركنا التدين"، فالأمة مليئة بالمظاهر الدينية. وليست في أننا "تركنا الجهاد" أو "تركنا حكم الله". بل الأزمة أعمق من ذلك بكثير: إن أصل تصورنا عن "التدين" و"الجهاد" و"حكم الله" نفسه قد تم تسميمه في منبعه بمصادر شركية، جعلت مع الله آلهة أخرى في التشريع.
وعليه، فإن طريق الإصلاح لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل. لا يبدأ بالبحث عن تطبيق قوانين، بل بالبحث عن تصحيح مفاهيم. إن نقطة البداية الوحيدة الممكنة، والسبيل الأوحد للنصرة والقوة، هو ما لخصه القرآن في كلمات بسيطة وحاسمة: إخلاص الدين لله. أن نخلص ديننا من كل شريك، وأن نعود إلى القرآن وحده كحاكم ومهيمن، وأن نطهّر عقولنا من كل مصدر سواه.
إنها سنة الله التي لا تتبدل، وقانونه الذي لا يحابي أحدًا:
...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... (الرعد: 11)
فلنصطلح أولاً مع الله بتصحيح فهمنا لدينه، حتى يصطلح معنا الكون بقوانينه. ولنتوافق مع ناموسه المنزل في القرآن، حتى نتناغم مع ناموسه الكوني المبثوث في الخلق. عندها فقط، يبدأ الفجر الصادق لهذه الأمة بالبزوغ.
والحمد لله رب العالمين.

الفصل الثامن عشر: شريعة اللباس بين تكفين المرأة وتسليعها: عودة إلى هداية القرآن
مقدمة: المرأة بين فكي كماشة
ما من قضية كشفت عن أمراض المجتمع وتناقضاته مثل قضية "المرأة". ففي مجتمع جار على ضعفائه واستغلهم، وُضعت المرأة بين فكي كماشة: فك "التكفين" وفك "التسليع".
ومن هذه الأحكام الخطيرة التي وقع فيها اللغط رغم وذوحه و بينونته في كتاب الله هو احكام لباس المرأة .
• فريق غالى وتشدد، فنظر إليها كجسد لا روح له، وكعورة متحركة لا قيمة لها إلا في إثارة الغرائز. فاعتبروا كل شيء فيها عورة، من ظفر قدمها إلى رمش عينها، فكفنوها في السواد حية، واعتبروا خروجها من بيتها خطيئة، ووجودها في الفضاء العام جريمة. وكل ذلك بناءً على عبارة "المرأة عورة"، وهي كلمة مشينة لم ترد في القرآن ولو لمرة واحدة. بل إنهم حرفوا حتى معنى النهي القرآني عن الخضوع بالقول، فزعموا أن صوت المرأة عورة، بينما الآية واضحة في أن المحرم هو افتعال الليونة والميوعة في الكلام، لا الصوت الطبيعي أو الحديث المعروف.
• وفريق جافى وتفلت، فدفع بها إلى اختلاط سافر وتبرج مشين، ونزع عنها دورها الأساسي في بناء الأسرة والمجتمع، لا تكريماً لها، بل استغلالاً لجسدها في الإعلانات، وجهدها في المصانع كترس رخيص في آلة الإنتاج. لقد سلعوها وجعلوها وقوداً لاقتصاد لا يرحم.
وكلا الفريقين، رغم تناقضهما الظاهري، يشتركان في شيء واحد: كلاهما يتعامل معها كـ "شيء" لا كـ "إنسان"، وكلاهما يصدر عن منهجية بعيدة كل البعد عن هداية القرآن التي كرمت الإنسان، رجلاً كان أو امرأة.
الفرق المنهجي بين القرآن والتراث
قبل أن نغوص في آيات اللباس، لا بد من ملاحظة الفارق الهيكلي الهائل بين القرآن والكتب المنسوبة للسنة.
• القرآن كتاب هداية وتزكية: إنه يؤصل لمعانٍ ومفاهيم إيمانية وسلوكية عظيمة. وجانب الأحكام والحدود فيه واضح، بسيط، ومحدود، ودائماً ما يكون هذا الحكم مرتبطاً بغاية أخلاقية عليا.
• كتب رواة المذاهب التراثية: هي على النقيض تماماً. أغلبها عبارة عن فتاوى وأحكام وسفاسف، ومبالغات في اللعن والتهديد بالحرق والوعيد. وفيها تعسف واضطراب في صفة الأحكام بشكل محير. فبينما يأتي القرآن بتوجيهات راقية، تأتي كتبهم بلعنات لا تنتهي: "لعن الله النامصة والمتنمصة"، و"المتعطرة زانية"، وغيرها من النصوص التي تزرع الكراهية والخوف بدلاً من التقوى والحب.



قراءة في هدايات القرآن: ميزان دقيق لا لعن فيه ولا تعسيف
حين نغوص في بحر القرآن، نجد أنه محكم ودقيق في استخدام ألفاظه. فهو يفرق بوضوح بين مراتب الأحكام والتوجيهات: هناك الفريضة التي لا تساهل فيها، والنهي الذي يقتضي الترك، والجُناح الذي هو حيدة ومخالفة بسيطة، واللمم الذي هو صغائر الذنوب، والاستحباب الذي فعله خير من تركه. هذا الميزان الدقيق هو الذي غاب عن فقه التراث الذي حوّل المستحبات إلى فرائض، والجناح إلى كبائر تستوجب اللعن.
  1. الزينة الظاهرة والباطنة وفقه الطبقات المشين

يبدأ القرآن بتأسيس قاعدة سلوكية عامة لكل المؤمنات، دون أي تمييز طبقي أو اجتماعي. يقول تعالى: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ..." (النور: 31).
هذه الآية وحدها تكشف عن منظومة متكاملة وتفضح تناقضات التراث:
• الخطاب للمؤمنات كافة: الخطاب هنا واضح وصريح: "لِّلْمُؤْمِنَاتِ". وهذه الكلمة تشمل كل امرأة دخلت في الإيمان، سواء كانت حرة أم أمة. فالقرآن نفسه يؤكد في موضع آخر: "وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ". فالإيمان هو المعيار، والخطاب الإلهي في الحشمة والعفة موجه لكل مؤمنة.
فقه طبقي عنصري: هنا، نصطدم مباشرة مع الفقه التراثي المشين الذي عطل هذه الآية عملياً. لقد اخترعوا فقهاً طبقياً عنصرياً، يعامل المرأة كحيوان بناءً على حالتها الاجتماعية. فبينما يفرضون على المرأة "الحرة" نقاباً أسود يحولها إلى خيمة متحركة، نجدهم في المقابل يروون آثاراً مهينة عن "الأمة" المؤمنة، فيزعمون أن عورتها تقتصر على السوأتين، ويروون أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء إذا تشبهن بالحرائر في اللباس. لقد أدى هذا الفقه إلى تصور مجتمع فصامي كانت فيه المؤمنات الإماء شبه عاريات، وأجسادهن مباحة للنظر، بينما "الحرائر" مكفنات.
وهنا، نصطدم مباشرة مع الواقع المظلم للفقه التراثي، الذي لم يعطل هذه الآية فحسب، بل أسس لنظام طبقي عنصري يعامل المرأة المؤمنة كالحيوان بناءً على حالتها الاجتماعية. ولنترك كتبهم تتحدث عن نفسها:
• يروي أنس بن مالك، كما في "حجاب المرأة المسلمة" للألباني الذي قال عنه "إسناده جيد":
"كنَّ إماءُ عمرَ رضيَ اللهُ عنه يخدُمْنَنا كاشفاتٍ عن شعورهنَّ تضطربُ ثُدِيُّهُنَّ".
• ويروي البيهقي وابن أبي شيبة بسند صححه الألباني أن عمر بن الخطاب رأى أمة مقنعة،
فضربها بالدرة وقال: "لا تشبهين بالحرائر". وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً، سألها: "عتقت؟ قالت: لا. قال: فما بال الجلباب؟! ضعيه عن رأسك، إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين".
• بل إن "شيخ إسلامهم" ابن تيمية يؤصل لهذه التفرقة فيقول في "مجموع الفتاوى":
"وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ... وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا".
• والأصل في هذه التفرقة يعود، حسب رواياتهم، إلى التمييز بين زوجات النبي وما ملكت يمينه، ففي قصة زواجه بصفية، قال المسلمون:
"إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه". فجعلوا الحجاب علامة للحرية والطبقة، لا رمزاً للتقوى والعفة.
فأي دين غريب هذا الذي يحمل هذه التناقضات؟ كيف يأمر القرآن جميع "المؤمنات" بالعفة وحفظ الفروج، ثم يأتي فقههم ليجبر "المؤمنة الأمة" على كشف شعرها وصدرها، ويضربها إن حاولت التستر والتشبه بالحرائر المؤمنات؟ إنه فقه فصامي، عنصري، يهدم وحدة الخطاب القرآني، ويؤسس لطبقية مقيتة لا مكان لها في دين الله.
والعجيب أن هذه الأدلة ذاتها هي التي يحتج بها عليهم العلمانيون ان لباس المرأة مجرد عادة لانها لو كانت عبادة لما ضرب عمر امراة على خلعه فهو ليس دين يدان به .وكل هذا لأنهم جعلوا مصدرا تشريعا متناقضا هو عمدتهم لا كتاب ربهم
• "إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا": هذا الاستثناء يثبت بالمنطق وجود نوعين من الزينة: "زينة ظاهرة" مسموح بها في الفضاء العام، و"زينة باطنة" لا تظهر إلا للمحارم. وهذا بالضرورة يعني وجود حالتين للباس: لباس للخروج، ولباس داخل البيت.
• "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ": هذا ليس أمراً باختراع لباس جديد. "الخُمُر" (جمع خمار) كانت معروفة، وهي أغطية الرأس. و"الجيوب" هي فتحات الصدر في الثياب. كانت عادة الجاهليات أن يسدلن خمرهن خلف ظهورهن، فتبقى صدورهن وفتحات ثيابهن العلوية ظاهرة. فجاء الأمر القرآني كتوجيه سلوكي: استخدمن هذا الخمار الموجود لتغطية منطقة الصدر المكشوفة. الأمر ليس ضرباً على الوجوه كما زعموا، بل هو توجيه عملي لتحقيق الحشمة.

  1. آية القواعد الكاشفة: فهم مرتبة "الجُناح"

تأتي آية النساء القواعد لتكشف عن كل المنظومة، وتضع مرتبة الحكم في نصابه الدقيق: "وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ" (النور: 60).
هذه الآية كاشفة وتنسف تطرف الفريقين:
• "أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ": ما هي هذه "الثياب"؟ هل هي الثياب العادية؟ بالطبع لا، فوضعها يعني التعري الكامل، وهو محال. إذاً، "الثياب" هنا هي الثياب الإضافية التي تُلبس فوق اللباس البيتي عند الخروج، وهي ما أشار إليه القرآن في آيات أخرى بـ"الجلباب" و"الخمار". فهذه الآية تثبت وجود لباسين وحالتين.
• "فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ": هذه هي الكلمة المفتاح. إذا كان "رفع الجناح" (أي إباحة الفعل) مقتصراً على النساء الكبيرات في السن، فهذا يعني بالمنطق أن على الشابات "جناح" إذا فعلن نفس الفعل (أي وضعن ثيابهن الخارجية). والجناح في لغة القرآن ليس كبيرة من الكبائر، بل هو مخالفة بسيطة وحيدة عن الكمال.
• "وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ": حتى مع رفع الجناح عن الكبيرات، يخبرنا الله أن الأفضل والأكمل لهن هو الاستعفاف وعدم وضع هذه الثياب. وهذا يؤكد أن ارتداء هذا اللباس الإضافي هو من باب الاستحباب المؤكد والفضل والاستعفاف، وليس فرضاً قاطعاً يستوجب اللعن والتكفير.
  1. توجيهات خاصة ونماذج أخلاقية

في هذا السياق، نفهم الآيات الأخرى فهماً صحيحاً:
• آية الجلباب: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ...". إنه توجيه أبوي لفئة مؤمنة، وليس حداً عاماً. فالمرأة التي غمر الإيمان قلبها، يصبح سلوك الاحتشام والوقار جزءاً من شخصيتها، فتسعى طوعاً لتحقيق هذه الدرجة من العفة لحماية نفسها وتمييز هويتها الإيمانية.
• آيات بيت النبوة: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ... وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ...". هنا نرى النموذج الأخلاقي الأرقى. وكلمة "وَقَرْنَ" لا تعني السجن، بل تعني أن تجعل المرأة من بيتها "مقرها" وقاعدة انطلاقها. فالقرآن نفسه يصف حركة الكون بديناميكية الاستقرار: فالشمس "تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا"، والأرض جُعلت "قَرَارًا"، وهذا لا ينفي حركتهما. كذلك القرار في البيت لا ينفي حركة المرأة ومشاركتها، بل يعظم دورها في جعل بيتها مؤسسة حضارية.


مواجهة التطرفين: لا تكفين ولا علمنة
بناءً على هذا الفهم القرآني الدقيق، يمكننا تفنيد حجج الفريقين:
  1. الرد على الغلاة (دعاة التكفين): إن منهجكم القائم على اللعن والتكفير هو منهج غريب عن القرآن.

• أنتم تحولون "الجناح" إلى "كبيرة"، و"الاستحباب" إلى "فريضة"، وهذا تحريف لميزان الله.
• أنتم تدعون إلى تغطية الوجه، بينما القرآن يخبرنا أن النبي كان يُعرف النساء بحسنهن: "وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ". فكيف يعجبه حسنهن وهن مغطيات الوجوه؟
• أنتم تفرقون بين الحرة والأمة في الحجاب، بينما القرآن يخاطب "المؤمنات" كوحدة واحدة. ففقهكم طبقي عنصري، وليس ربانياً.
  1. الرد على الجفاة (دعاة العلمانية الصرفة): إن قولكم بأن اللباس مجرد "عادة اجتماعية" لا توجيه فيها هو قفز على نصوص القرآن الواضحة ومحاولة لإلحاد في آياته.

• القرآن لم يخترع الجلباب والخمار، ولكنه أقرّهما كألبسة حميدة وزاد عليها ضوابط أخلاقية (كالإدناء وضرب الخمار على الجيوب). فليس كل ما في الجاهلية كان شراً، بل جاء الإسلام ليهذب ويقر الحسن.
• الخمار لغة وشرعاً وتاريخاً هو غطاء الرأس. فمن "خَمَّرَ الإناء" أي غطى فوهته. وإنكار هذا هو إنكار للغة والتاريخ.
• إن محاولة تأويل هذه الآيات الواضحة لتبرير خلع المرأة للباسها بالكامل، وجعله مثل لباس الرجل، هو تكذيب للنص القرآني، وتجني عليه. فمن الأفضل لهؤلاء أن يؤصلوا للعلمانية بعيداً عن محاولة تطويع القرآن لأيديولوجيتهم، فهذا تلاعب بكلام الله.
خاتمة: العودة إلى التكريم القرآني إن شريعة اللباس في القرآن ليست قائمة على تكفين المرأة أو تسليعها، بل على تكريمها وحمايتها وتفعيل دورها المحوري. إنها توجيهات راقية تهدف لبناء مجتمع عفيف ومتين. والخروج من فوضى التطرفين لا يكون إلا بالعودة إلى هذا الوسط القرآني، الذي يرى في المرأة إنساناً كاملاً، شريكاً للرجل في بناء الحضارة، وحارسة لأهم قلاعها: البيت.

جريمة كيف شرعنوا (البيدوفيليا)- زواج الصغيرة- باسم الدين؟
مقدمة: نواة المجتمع في مهب التحريف
إن باب أحكام النكاح في القرآن هو من أعظم الأبواب التي أولاها الله اهتماماً وتفصيلاً. وما ذلك إلا لأن العلاقة بين الرجل والمرأة هي نواة الأسرة، ومصنع النسل، ومحل تكوين وتربية النوع البشري. ولما كان صلاح الإنسان هو غاية القرآن، كان من الطبيعي أن يتولى الاهتمام بلحظة تكوّن هذه النواة، وينظم العلاقة بين قطبي المجتمع بما يضمن الصلاح والرحمة والمودة.
إن باب تبديل الأحكام في النكاح بابٌ كبير، والنكاح قضية من أهم القضايا التي أولاها القرآن حقها كاملاً. وما ذلك إلا لأن العلاقة بين الرجل والمرأة هي نواة الأسرة، ومصنع النسل، ومحل تكوين وتربية النوع البشري. ولما كان القرآن أهم ما يهتم به هو صلاح النوع البشري، فتولية الاهتمام للحظة تكوّنه وصحة نشأته، وكذلك تنظيم العلاقة بين قطبي المجتمع، كانت من أهم مسائل الأحكام وأولها حين نزل المؤمنون إلى المدينة وبدأوا في إقامة مجتمع مؤمن، لأن إصلاح العلاقة بين الرجل والمرأة يعني بالضرورة إصلاح أول أسس قيام المجتمع ككل، لأنه نواته وأول أركانه.
ولقد طال هذا الباب – يعني باب أحكام النكاح – من الفقهاء اعتداءات جمة وتحريف كبير إرضاءً للولاة والطواغيت. وما حكم الرجم إلا كان إرضاءً من فقيه لوالٍ وُجدت امرأته زانية فأراد أن يرجمها، فجعله تشريعاً عاماً. ولما وُجد منها ولد وهو عقيم، أراد أن ينسب الولد له، فلغى آية ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ بحديث "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وما أرى هذا الحديث إلا كسجع الكهان وتلفيق شعراء الملوك وبلغاء البلاط، وما هو بقول رسول ولا بوحي منزل من السماء.
ولكي لا أطيل عليكم في هذا الباب، لأن باب النكاح خاصةً سنفرد له تأصيلاً مستقلاً في القسم الأخير من الكتاب (اليوتوبيا الحقيقية لأهل القرى في إقامة شريعة السماء)، لكني سأعرض مسألة واحدة تدل على مدى عمق التحريف الفقهي السلطاني، وهو ما أسموه بـ"نكاح الصغيرة"، وهي بيدوفيليا مرضية خبيثة صرفة -يجب أن تُجتث- تسربلت برداء الدين والفقه. وسأرفق الأدلة من القرآن على ذلك، وما اتبعه أهل الفقه من متشابه يسوغون به تلك الجريمة التشريعية.
أولاً، النكاح في القرآن هو علاقة تراضٍ بين رجل وامرأة، وأول شروطها الإيمان وثانيها الإحصان. والإيمان هنا هو فعل إرادي يأتي بعد تعقل ، لذلك كل آيات الدعوة للإيمان متبوعة بـ"أفلا تعقلون". وكلامي هذا ليس معناه أن الصبي والفتاة الصغيرة ليسا بمؤمنين، فهم مسلمون على فطرة الله، لكن عقولهم إجماعاً في مرحلة نمو وعدم اكتمال. والأطفال لم يأتوا في بيعة الرضوان، والمؤمنون والمؤمنات بايعوا النبي ﷺ، وميثاق الإيمان الذي واثق به الله المؤمنين وبني إسرائيل وأتباع الأنبياء دلّ على اتفاق موثق. وتلك العقود والاتفاقات والبيعات لا يُكلّف بها إلا عاقل تام العقل، وهو محل التكليف.
وما شرط الإيمان في النكاح إلا لأن الإيمان موجب لتقوى الله في كلا الطرفين، الموجبة لحسن العشرة ومعرفة الحقوق، والتي شرطها الثاني "الإحصان". والطفلة الصغيرة لا يمكنها أن تعطي الشرط الأول (الإيمان) بمعناه المطلوب، والأهم أن الشرط الثاني (الإحصان) غير مفهوم لها حتى تعطي عليه ميثاقاً. فالإحصان يعني أنها تفهم العلاقة الجنسية وتعلم وجوب قصرها على من تتفق معه على هذا العهد ، والفتاة لا يمكنها أن تعطي عهداً على شيء لا تفهمه.في هذا الفصل، سنعرض كيف أن هذا الفعل، الذي هو جريمة بكل المقاييس النفسية والطبية والأخلاقية، هو أيضاً جريمة بحق كتاب الله، الذي وضع للزواج شروطاً ومقاصد يستحيل أن تتحقق في طفلة.

  1. ميثاق النكاح في القرآن: عهد بين الراشدين

القرآن واضح في أن النكاح ليس مجرد إشباع للغرائز، بل هو "ميثاق غليظ" [النساء: 21]، وعقد يقوم على أسس لا يمكن لطفلة أن تعقلها أو تلتزم بها. ومن أهم هذه الأسس:
• الشرط الأول: الإيمان كخيار واعٍ يضع القرآن الإيمان شرطاً أساسياً في الزواج من غير أهل الكتاب، فيقول: ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ... وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا...﴾ [البقرة: 221]. والإيمان في القرآن ليس كلمة تُلقن، بل هو فعل إرادي يأتي بعد تعقل ونضج، ولهذا يقرن الله الدعوة إليه دائماً بالدعوة للتفكر والتعقل. قد تكون الطفلة مسلمة على الفطرة، ولكنها لا تملك الوعي الذي يمكنها من عقد "ميثاق الإيمان".
والدليل القاطع على أن الإيمان المطلوب في النكاح هو إيمان الراشدين، يأتي في قوله تعالى في شأن النساء المهاجرات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ... وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ...﴾ [الممتحنة: 10].
وهنا نسأل: كيف يمكن أن نمتحن طفلة في إيمانها؟ إن الامتحان يقتضي وجود عقل ناضج قادر على الاختيار والتمييز بين الحق والباطل، وقادر على فهم أسس الإيمان بالله واليوم الآخر والكفر بالطاغوت. إن هذا الشرط وحده كافٍ لنسف فكرة نكاح الصغيرات من أساسها.
• الشرط الثاني: الإحصان والقدرة على حفظ الميثاق يصف القرآن الزوجات الصالحات بأنهن "محصنات". والإحصان لا يعني فقط العفة، بل يعني القدرة على فهم العلاقة الزوجية، وإدراك قدسيتها، والالتزام الطوعي بحصرها في إطار الميثاق الذي تم عقده. الطفلة لا تعي معنى العلاقة الجنسية أصلًا، فكيف يمكنها أن تعطي عهداً وميثاقاً على حفظ شيء لا تفقهه؟
• الشرط الثالث: الرضا والأهلية في العقد من شروط النكاح إيتاء الأجر والمهر ﴿...إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...﴾. وهذا يقتضي وجود طرفين كاملي الأهلية العقلية والقانونية. فكيف لطفلة في السادسة أو التاسعة من عمرها أن تفاوض على مهرها، أو حتى أن ترضى بعقد لا تفهم بنوده ولا غايته؟ إن هذا يجعل العقد باطلاً من أساسه.
  1. جريمة التحريف: تفكيك "دليل" نكاح الصغيرة

أمام هذه المحكمات القرآنية الواضحة، لم يجد فقهاء السوء إلا آية واحدة تشبثوا بجزء منها، وحرفوه عن مواضعه، وجعلوه أساساً لتشريعهم المنحرف. يقول الله تعالى في سورة الطلاق:
﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ...﴾ [الطلاق: 4].
لقد أخذوا عبارة ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ وقالوا: هذه هي الطفلة الصغيرة التي لم تبلغ بعد! وهذا من أبشع صور التحريف، ويكشفه سياق الآيات نفسه:
• السياق عن "النساء" لا "الأطفال": الآية تبدأ بقوله ﴿...مِن نِّسَائِكُمْ...﴾، والخطاب في السورة كلها عن أحكام طلاق النساء، وليس الأطفال.
• تفسير "لم يحضن": إن عبارة "واللائي لم يحضن" لا تعني بالضرورة الطفلة. بل هي وصف لحالة طبية معروفة لدى النساء البالغات اللاتي لم يأتهن الحيض أصلاً، أو انقطع عنهن لسبب مرضي قبل سن اليأس. والقرآن، في كمال تشريعه، وضع حكماً لعدتهن كما وضع حكماً لمن بلغن سن اليأس.
• شرط "الفاحشة المبينة": في نفس السورة، يقول الله تعالى إن المطلقة لا يجوز إخراجها من بيتها في فترة العدة ﴿...إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ...﴾ [الطلاق: 1]. والطفلة الصغيرة، كما يعلم كل ذي لب، ليست أهلاً للتكليف، ولا يمكن أن توصف أفعالها بأنها "فاحشة" لأنها لا تعقل معناها. هذا يثبت أن الخطاب كله موجه إلى نساء بالغات عاقلات مكلفات.

• حكمة العدة: إن العدة ليست فقط لاستبراء الرحم، بل هي فرصة للمراجعة النفسية والعاطفية ﴿...لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾. فأي مراجعة نفسية أو عاطفية يمكن لطفلة أن تقوم بها؟
إن حمل الآية على الطفلة هو إخراج لها عن سياقها، وتعمية عن معناها الطبي والمنطقي، وتجاهل لبقية أحكام السورة التي لا تنطبق إلا على البالغات.
  1. جريمة بحق الإنسانية: شهادة الطب والنفس

لو تركنا النصوص جانباً ونظرنا إلى الواقع، لوجدنا أن "نكاح الصغيرة" جريمة مكتملة الأركان من الناحية الطبية والنفسية:
• الأذى الجسدي: إن جسد الطفلة غير مهيأ للعلاقة الجنسية. غشاء البكارة لديها يكون صلباً، والأنسجة المحيطة به رقيقة، مما يجعل العملية مؤلمة للغاية وقد تؤدي إلى تمزقات خطيرة وعاهات مستديمة. جسدها غير ناضج لتحمل هذه العلاقة، لا من حيث الإفرازات الطبيعية ولا من حيث اكتمال نمو الأعضاء.
• خطر الموت عند الحمل: إن الحمل المبكر، إن وقع، هو خطر مميت على الطفلة التي لم يكتمل نمو عظامها وحوضها، وفوق طاقتها الجسدية.
• الصدمة النفسية (التروما): تخيل الرعب الذي يصيب طفلة حين تجد رجلاً يكبرها بأعوام يخلع ثيابه ويقوم بفعل يسبب لها ألماً جسدياً لا تفهمه ولا تطيقه. إنها صدمة نفسية محققة، وعنف يترك ندوباً في روحها طوال حياتها.
إن نكاح الصغيرة ليس نكاحاً، بل هو اعتداء واغتصاب مقنن، وهو جريمة بكل المقاييس النفسية والطبية والشرعية، كما لا يخفى على كل ذي لب وقلب وعقل.

من لم يفهم الجنس أصلا كيف يفهم فحش المخالفة فيه(جريمة التحرش بالأطفال)
وأريد أن أتوقف لبرهة عند قول الله تعالى
• شرط "الفاحشة المبينة": في نفس السورة، يقول الله تعالى إن المطلقة لا يجوز إخراجها من بيتها في فترة العدة ﴿...إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ...﴾ [الطلاق: 1]. والطفلة الصغيرة، كما يعلم كل ذي لب، ليست أهلاً للتكليف، ولا يمكن أن توصف أفعالها بأنها "فاحشة" لأنها لا تعقل معناها. هذا يثبت أن الخطاب كله موجه إلى نساء بالغات عاقلات مكلفات.
وهنا يجب أن نتوقف لنسأل سؤالاً أعمق قليلا حول شرط عدم الإتيان بفاحشة و هو مالا ينطبق على صغيرة اعقاله قطعا و يكشف حجم الفصام في هذا الفقه المريض. إن المجتمعات البشرية السوية، بل والقوانين الوضعية اليوم، تعتبر أن التحرش بطفلة صغيرة هو جريمة لا تغتفر. لماذا؟ لأن الطفلة، من فرط براءتها، لا تملك الوعي والإدراك. هي لا تفهم أن تحسس رجل غريب لجسدها هو فعل فاحش، ولذلك تقع المسؤولية الكاملة على أهلها وعلى المجتمع لحمايتها من هذا الاعتداء على جسد لا يعقل أصلاً أنه يُعتدى عليه. فلو وجدنا رجلاً كبيراً يعتدي على طفلة، يستحيل أن نقول إنها فعلت ذلك برضاها،أو انها فتاة فاحشة خبيثة تغوي الرجال . بل نرى في فعله جريمة مكتملة الأركان تستوجب أغلظ العقوبة.
وهنا السؤال الذي يهدم بنيانهم: إذا كنا نعتبر مجرد لمس جسد طفلة جريمة نكراء، فبأي منطق شيطاني يصبح النكاح الكامل بها، مع كل ما فيه من عنف جسدي ونفسي، حلالاً ومباركاً بمجرد أن يقبض وليها حفنة من المال؟!
إن الطفلة الممارس عليها الفعل واحدة، وبراءتها وعدم فهمها للفعل واحد في الحالتين. فكيف يكون الفعل في الحالة الأولى "تحرشاً" وجريمة، وفي الحالة الثانية "زواجاً" وشريعة؟!

إن الحقيقة المرة أن هذا ليس نكاحاً، بل هو "عملية نخاسة وبخاسة واغتصاب لا مرية فيه". إنها قصة رجل غني يذهب إلى أهل فقراء ليشتري طفلتهم بماله، فيبيع الأهل لحمهم ودمهم في صفقة نجسة، ويأتي فقهاء الطواغيت ليضعوا عليها غطاءً شرعياً مزيفا لطواغيتهم الأغنياء. إنها جريمة مكتملة الأركان في مجتمع نُزعت منه الرحمة.
والأدهى من ذلك، أن هذا الفقه يصطدم مباشرة مع جوهر التشريع القرآني في المهر وحق المرأة فيه.
حق المهر: هبة للمرأة أم ثمن لبيعها؟
إن القرآن حاسم في أن المهر هو حق خالص للمرأة نفسها، يُعطى لها كهدية وعربون محبة، لا ثمناً لجسدها يأكله وليها سحتاً. يقول الله تعالى بوضوح لا لبس فيه:
﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ [النساء: 4].
دعنا نفكك هذه الآية المحكمة:
﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾: الأمر صريح بإعطاء الصداق (المهر) للنساء مباشرة، فالضمير "هنّ" يعود عليهن.
والقرآن حاسم في أن المهر هو حق خالص للمرأة نفسها، لا ثمناً لجسدها يأكله وليها سحتاً. يقول الله تعالى بوضوح لا لبس فيه:
﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ [النساء: 4].
وكلمة ﴿نِحْلَةً﴾ هنا في غاية الدقة والقوة. هي لا تعني مجرد "هبة" اختيارية، بل تشير إلى حق واجب وعُرف راسخ، من جذر "نحل" الذي يعني الدأب على الشيء حتى يصير عادة لازمة ومنا كلمة ملل ونحل ..و هي طريقة الناس الدينية التي دأيوا عليها سمت نحلة و هي من نجذر نحل بفتح النون ..نحل ينحل انتحالا و منها سمية نحل العسل ، كنحلة العسل التي تدأب على عملها بنظام ثابت في جمع الرحيق و بزل العسل و جمع غذاء الملكة . فالمهر هو حق أصيل واجب للمرأة كجزء لا يتجزأ من طبيعة هذا العقد، وهو ما تؤكده آية أخرى تصفه بأنه "فريضة": ﴿...فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً...﴾ [النساء: 24].و هي تعني استمرارية الحق مع استمرار الاستمتاع
والبرهان القاطع يكمن في تتمة الآية: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا...﴾. فالقرآن يجعل المرأة هي وحدها صاحبة السلطان على مهرها، فلها كامل الأهلية في أن تتنازل عن جزء منه عن طيب خاطر منها.
وهنا ينهار فقههم تماماً أمام سؤال المنطق والقرآن: كيف لطفلة لا تملك الولاية المالية على نفسها، والتي يأمر القرآن باختبار "رشدها" بعد البلوغ قبل تسليمها مالها [النساء: 6]، أن تكون أهلاً لممارسة هذا الحق المالي المعقد، فتقبل "فريضة" لا تعي قيمتها، و"تطيب نفساً" عن شيء لا تدرك معناه؟
إن هذا التناقض يكشف أن "نكاح الصغيرة" ليس مجرد انحراف أخلاقي، بل هو فوضى تشريعية تهدم قواعد القرآن وأحكامه."﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا﴾: وهنا البرهان القاطع. إن المرأة هي وحدها من تملك الحق في أن تتنازل عن جزء من مهرها لزوجها عن طيب خاطر منها. هذا يثبت أنها هي المالك الأصلي للمهر، وأن لها كامل الأهلية في التصرف فيه.
وهنا نصل إلى التناقض الذي لا حل له في فقههم:
إذا كانت المرأة هي صاحبة الحق في قبول المهر والتنازل عنه، فكيف يمكن لطفلة صغيرة لا تملك الولاية المالية على نفسها أن تمارس هذا الحق؟
القرآن نفسه يضع شرط "الرشد" لتسليم اليتيم ماله، وهو سن البلوغ مع القدرة على حسن التصرف المالي: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...﴾ [النساء: 6].

فكيف يستقيم في منطقهم أن تكون الطفلة غير مؤهلة لاستلام مالها، ولكنها في نفس الوقت مؤهلة لعقد أخطر عقد في حياتها، وقبول مهرها الذي هو حقها، والتصرف فيه؟! إن هذا التناقض يكشف أن "نكاح الصغيرة" ليس مجرد انحراف أخلاقي، بل هو فوضى تشريعية تهدم قواعد القرآن وأحكامه.

سجل المراجعات