الفصل الأول "البُدْن": الشعيرة العظمى التي قُتلت
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
"البُدْن": الشعيرة العظمى التي قُتلت
في قلب "منسك" الحج، كانت هناك شعيرة عظيمة، حية، نابضة بالمعاني، تملأ الأفق جلالًا والقلوب تقوى، وتفيض على ضيوف الرحمن بالخير والبركة. كانت شعيرة تامة الأركان، واضحة المعالم، محددة المكان والزمان والغاية. لكنها اليوم لم تعد موجودة. لقد تم اغتيالها عمدًا، وتقطيع أوصالها، وتفريق دمائها بين مصطلحات الفقهاء وأعراف التجار، حتى لم يبق منها إلا اسمها في بطون الكتب، وذِكرى باهتة في قلوب من يتدبرون كتاب ربهم. تلك هي شعيرة "البُدْن"، شعيرة الله العظمى التي قُتلت.
إن أول خطوة في رحلة العودة إلى الله، هي إحياء ما أماتوه من دينه. وفي هذا الفصل، سننبش عن حقيقة هذه الشعيرة المقتولة، لا من كتب الرجال، بل من كلمات الله التي لا يأتيها الباطل، لنرى بأعيننا عظمة ما فقدنا، وحجم الجريمة التي ارتُكبت في حق أعظم مناسك الحج.
"البُدْن": ليست "هديًا" ولا "أضحية"
لقد عمد فقه الأحبار إلى الخلط بين المفاهيم، فذاب الملح في الماء وضاع طعمه. لقد دمجوا بين ثلاثة مفاهيم قرآنية مختلفة تمامًا، ليخفوا جريمة قتل الشعيرة الكبرى:
- الهدي: وهو كما بيّنه القرآن "هدية" أو "كفارة" تُقدَّم في حالات خاصة جدًا: للمتمتع شكرًا على رخصة التحلل، وللمُحصَر كحل للخروج من إحرامه. إنه حكم خاص مرتبط بسبب.
- الأضحية: وهي البدعة التي استحدثوها لغير الحاج، وجعلوها فرضًا عامًا في كل مكان، ما أنزل الله به من سلطان، خدمة لمصالح تجارية وسياسية، كما سنبين لاحقًا.
- البُدْن: وهي ليست هذا ولا ذاك. إنها شعيرة تأسيسية، وركن عظيم من أركان الحج، واجبة على كل حاج مقتدر، تمامًا كالصفا والمروة. والله هو من سماها باسمها الذي يدل على صفتها، فهي من "البَدَن" أي الجسد الضخم. إنها الإبل والبقر والجاموس، تلك الأنعام العظيمة التي تليق بإقامة وليمة عالمية. اسمع إلى تعريف الله لها:
﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ...﴾ (الحج: 36)
لم يقل "من الهدي" ولم يقل "من الأضاحي"، بل قال مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ
. إنها فئة مستقلة، وشعيرة قائمة بذاتها، لا يجوز الخلط بينها وبين غيرها. إن قتلها بدأ يوم أن تم تجهيل الأمة بحقيقتها، ودمجها مع مفاهيم أخرى أقل منها شأنًا.
مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
: قدسية المكان وروحانية المشهد
إن روح الشعيرة تكمن في مكانها. والله لم يترك الأمر عائمًا، بل حدد مكان هذه الشعيرة بدقة قاطعة:
﴿...ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج: 22)
"محلها" أي مكان حلولها وتقديمها ونحرها. ليس في مجازر نائية خلف الكواليس، وليس عبر صكوك ورقية باردة، بل "إلى" البيت العتيق. هذا القرب المكاني هو جوهر الشعيرة. تخيل المشهد الذي أراده الله: ملايين الحجيج، بعد أن قضوا مناسكهم العظمى، يتوجهون ببدنهم الضخمة إلى رحاب البيت الحرام، ليشهدوا بأعينهم، وتشارك قلوبهم، في تقديم هذا القربان في أقدس بقعة على وجه الأرض.
إن نقل هذه الشعيرة من مكانها هو قتل لروحها. لقد حولوها من شعيرة مكانية مقدسة، إلى عملية لوجستية تتم في الخفاء. لقد سرقوا من الحاج لحظة الخشوع والرهبة وهو يرى قربانه يُقدَّم عند بيت ربه، فماتت روحانية المشهد.
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
: وليمة الله التي توحد الأمة
ثم تأتي الطامة الكبرى، والأمر الإلهي الصريح الذي تم تعطيله جهارًا نهارًا. بعد أن تُنحر البُدْن عند البيت العتيق، ماذا يحدث؟ يجيب القرآن بأمر إلهي واجب لا يحتمل التأويل:
﴿...فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (الحج: 36)
فَكُلُوا مِنْهَا
. هذا ليس خيارًا، بل هو أمر للحاج نفسه. لقد حول الله القربان إلى وليمة، وجعل الحاج أول المشاركين فيها. إنها بركة من الله ورزق ساقه لضيوفه، يأكلون منه بأيديهم، فتمتزج العبادة بالنعمة، والقربة بالبركة.
وَأَطْعِمُوا
. ثم يأتي الأمر الثاني الذي يحول الشعيرة إلى أكبر عملية تكافل اجتماعي في العالم. الغني الذي قدّم البَدَنة، والفقير "القانع" الذي يرضى بما قسم الله، و"المعتر" الذي يسأل الناس، كلهم يأكلون من نفس المائدة، مائدة الرحمن. تتلاشى الفوارق، وتذوب الطبقات، ويتحقق معنى الجسد الواحد في أبهى صورة.
فبالله عليك انظر إلى واقعنا اليوم. هل يأكل حاج واحد من بدنه؟ هل يطعم بيده قانعًا أو معترًا؟ لقد تم عصيان هذا الأمر الإلهي بشكل كامل. استبدلوه بكلمة مخدرة: "حبيبي، ادفع الصك ونحن نوزعها عنك". فماتت المشاركة، ومات التكافل، وتحولت وليمة الله الحية إلى معاملة بنكية جافة.
صَوَافَّ
: استعادة المشهد المهيب الذي غُيّب
وأخيرًا، يصف القرآن لنا هيئة تقديم هذه الشعيرة بمشهد سينمائي مهيب يفيض بالجلال والنظام:
﴿...فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ...﴾ (الحج: 36)
"صوافًّا" أي مصطفة في صفوف منتظمة، واقفة، جاهزة لتقديمها لرب العالمين. تخيل عظمة هذا المشهد الذي أراده الله أن نراه ونشهده: آلاف مؤلفة من الإبل والبقر الضخمة، تقف في صفوف منتظمة في رحاب الحرم، في سكون ووقار، والحجيج يذكرون اسم الله عليها قبل نحرها. إنه ليس مشهد فوضى أو همجية، بل هو مشهد قوة ونظام وخضوع لله وحده.
هذا المشهد مات أيضًا. لم يعد يراه أحد. لقد قُتل عمدًا وأُخفي عن الأنظار، لأن هذا المشهد وحده كان كفيلًا بأن يملأ قلوب المسلمين عزة، وقلوب أعدائهم رهبة.
الخاتمة.. ودعوة للإحياء
لقد كانت شعيرة متكاملة: حيوان عظيم (بَدَنة)، في مكان عظيم (عند البيت العتيق)، في مشهد عظيم (صَوَافًّا)، لغاية عظيمة (وليمة تجمع الأمة). فجاءوا وقطعوا أوصالها: استبدلوا البَدَنة بالهزيل، ونقلوا المكان، وأخفوا المشهد، وعطلوا الوليمة. فهل بقي من الشعيرة شيء؟
إنها لم تمت بفعل الزمن، بل قُتلت بسيف التحريف. ومهمتنا اليوم، إن كنا صادقين في عودتنا إلى الله، أن نحييها كما أنزلها الله في كتابه. أن نعيد للحج قلبه النابض، ووليمته الكبرى، ومشاهده المهيبة. أن نعود من فقه الأحبار، إلى وحي العزيز الغفار.