رمزية الإحياء الإبراهيمي
لم أكن أتنبه أن آية إبراهيم في الطير التي "صَرَّهُنَّ إليه ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا ثم دعاهن فأتينه سعيًا"، تحمل رمزية أعمق بكثير من مجرد قصة تراثية سِيقت كبرهان وقتي لإبراهيم. إن القرآن أعظم من أن يدعي أحد حصر تأويله. لذا، أهل الإيمان لا يدعون معرفة التأويل، بل يتدبرون القرآن ويغوصون في معانيه، ويستنبطون منه أنوارًا لا حصر لها، تصديقًا لقوله تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109]. إن ما أقوله ليس "علمًا باطنيًا" يزعم معاني تناقض اللغة، بل هو امتداد تدبري لذات السياق والمعنى، ولكن في فضاء لغوي يلامس كل زمان ومكان. فكلام الله أكبر من أي حدث، ومناسب لكل حدث.
إن طلب إبراهيم ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ﴾ لم يكن سؤالاً عن البعث الجسدي فحسب، بل كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بسياق الدعوة النورانية الإحيائية. لقد كان يرى العالم غارقًا في ظلمات الشرك، ويرى أتباع الحق قلة مستضعفة، فكان سؤاله يحمل في طياته استشرافًا لمستقبل دعوته: كيف ستحيي هذه القلوب الميتة؟ وكيف ستبعث هذه الأمة من ركام الاضطهاد؟
إن الله يضع لنا الميزان واضحًا في كتابه، فالأحياء ليسوا كالأموات: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا...﴾ [الأنعام: 122]. ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 19-22].
وهنا تتجلى لطيفة قرآنية عظيمة: إن قوله تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾ ليس فقط عن الموتى الحقيقيين، بل هو كناية عن الكفار الذين خُتم على أسماعهم فصاروا كالأموات في قبورهم، لا يسمعون نداء الحق ولا يستجيبون له. إنما يسمع الدعوة الأحياءُ قلوبُهم، لا أمواتُ البصيرة.
إن الله لم يأمر إبراهيم بقوله "فقطّعهن"، بل قال ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾. إن "الصيرورة" أعمق وأشمل من التقطيع؛ إنها عملية تحول وتغير بمرور الزمن وتأثير المحن. إنها تصف بدقة ما يمر به أتباع الحق من تمحيص وابتلاء، حيث تُمزق أجسادهم وتُفرّق أشلاؤهم. لكن العجيب في تلك الأنفس المؤمنة أن هذه الصيرورة لا تفنيها. وهنا يأتي المثال المزلزل من تاريخنا، قصة عبد الله بن الزبير وأمه الصديقة أسماء بنت أبي بكر.
حين حاصره الحجاج في حرم الله، جاءه أخوه عروة بن الزبير—الذي فُتن بدنيا بني أمية—يدعوه للاستسلام وقبول الدنية. فدفعه عبد الله بشدة وقال قولته التي تدوي في أسماع التاريخ: "أيكون قلبي إذن مثل قلبك يؤثر الحياة الدنيا؟ والله لو قبلتُ ما تقولون ما عشت إلا قليلاً... لا أقبل شيئًا مما تقولون!".
ثم ذهب رضي الله عنه مهمومًا إلى أمه أسماء، وقد جاوزت المئة وفقدت بصرها، وقال لها: "يا أماه، خذلني الناس...". فماذا قالت تلك الصديقة؟ لم تقل له "انجُ بنفسك"، بل قالت له كلمات من نور ونار: "يا بني، لا ترضَ الدنية... إن الكبش لا يؤلمه السلخ بعد الذبح".
الله أكبر! كيف تقول أمٌ لفلذة كبدها اذهب إلى القتل والتمثيل والتنكيل بهذه الثقة المطلقة؟ لأنها كانت تدرك بيقين المؤمنين أن ابنها إن قُتل شهيدًا فسيظل حيًا غير ميت. لقد كانت ترى بعين قلبها حقيقة قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم...﴾ [آل عمران: 169-170].
إن قصة الطيور ليست قصة موت، بل هي قصة إحياء ونصر. ولذلك، جاءت خاتمتها ﴿...وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260] لتكون بشرى، ولترسخ سنة الله في نصر عباده المؤمنين. إنها ذات الخاتمة التي نجدها تتكرر في أعظم مواطن النصر والتأييد الإلهي في القرآن، مما يؤكد أن الآية تحمل في طياتها وعدًا مستمرًا:
• في سياق النصر يوم بدر: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].
• في سياق نصرة النبي في الغار وإعلاء كلمة الله: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].
• في سياق وعد الله بالرحمة للجماعة المؤمنة التي تقيم أمر الله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].