جريمة عقر الناقة - حين يكون الفعل هو عين التكذيب
وها أنا ذا أستعين بالله وأشاركك في صياغة بنيانه، كما طلبت، ليكون حجة ماضية وسيفاً قاطعاً:
مقدمة: حين تُهدم الأعذار بضربة واحدة
في رحلتنا لهدم بنيان الفقه التراثي، الذي بُني على فصل الإيمان عن العمل، وتبرير المعصية ما لم يصاحبها "استحلال قلبي"، نصل اليوم إلى قصة قرآنية هي بحد ذاتها معول هدم لهذه المغالطة الكبرى. إن قصة ناقة صالح ليست مجرد حكاية عن قوم غابرين، بل هي "دراسة حالة" إلهية، ودرس منهجي خالد في فهم طبيعة الكفر والتكذيب.
لقد علمنا فقهاء السوء أن "مرتكب الكبيرة" ليس بكافر ما لم يستحلها بقلبه، وجعلونا نبحث في النوايا الخفية وضمائر القلوب التي لا يعلمها إلا الله، لكي يبرروا لطواغيتهم وأوليائهم كل موبقة، بحجة أن "الإيمان في القلب". ولكن القرآن، في هذه القصة، يقدم لنا الميزان الحق: إن هناك أفعالاً هي بحد ذاتها، في ذاتها، عين التكذيب وقمة الكفر العملي، بصرف النظر عما يدور في قلب فاعلها من تأويل أو ما يختبئ في عقله من تبرير.
- المشهد: الآية الواضحة والتحذير الصريح
لم تكن ناقة صالح مجرد بهيمة، بل كانت آية بينة ﴿قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الشعراء: 155]. لقد كانت اختباراً واضحاً للطاعة، وميثاقاً بسيطاً لا لبس فيه. وكان التحذير الإلهي على لسان رسوله قاطعًا:
﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ [الشمس: 13].
الأمر لم يكن معقداً. لم يتطلب منهم إيمانًا بنظريات كلامية، بل طلب منهم فعلاً بسيطًا: "لا تمسوها بسوء". لقد كانت المعركة كلها في هذا الفعل.
- الجريمة والحكم الفوري: "فكذبوه فعقروها"
وهنا بيت القصيد، وهنا تتجلى الدقة المعجزة للقرآن في وصف الجريمة والحكم عليها في آن واحد:
﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا...﴾ [الشمس: 14].
تأمل يا صديقي في حرف "الفاء" هنا. إنها فاء السببية والنتيجة المباشرة. القرآن لم يقل "كذبوه ثم عقروها"، بل ربط الفعلين ربطاً عضوياً لا ينفصم. لقد كان فعل "العقر" هو النتيجة الحتمية والبرهان العملي على "تكذيبهم".
هل بحث الله في قلوبهم عن نية الاستحلال؟
هل سألهم: هل تعتقدون أن عقرها حلال أم حرام؟
أم هل كان فعلهم الصريح هذا، هذا التعدي السافر على "آية الله"، هو عين التكذيب الذي لا يحتاج إلى دليل آخر؟
إن "العقر" هنا هو التكذيب وقد تجسد فعلاً. إن الإقدام على هذا الفعل، في تحدٍ مباشر للتحذير الإلهي، هو الكفر العملي في أوضح صوره. لم تكن هناك حاجة لبيان "عقيدتهم"، فقد نطقت أفعالهم بأبلغ بيان.
- العاقبة الحتمية: "فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا"
إن حجم العقوبة يدل على حجم الجريمة. لم تكن العقوبة مجرد عذاب دنيوي، بل كانت "دمدمة" و"تسوية"، أي إبادة كاملة لم تبقِ منهم أثراً.
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: 65].
إن هذا الهلاك الشامل لم يأتِ على "معصية" عابرة يمكن أن تُغفر، بل جاء على "ذنب" أصل، ذنب التكذيب العملي الذي تمثل في عقر الناقة. لقد كان هذا الفعل هو القشة التي قصمت ظهر البعير، والنقطة التي استحقوا بها الخلود في العذاب.
خاتمة: حين يسقط عذر "الاستحلال"
إن قصة أصحاب الناقة، يا صديقي، هي سيف قرآني مسلط على رقبة كل فقه مرجئ يريد أن يفصل الإيمان عن العمل.
قوم ثمود لم يقولوا "نحن نستحل عقرها". بل على الأرجح، كانوا مثل كل الطغاة، يبررون فعلتهم بألف حجة، ربما قالوا: "إنها مجرد ناقة تضيق علينا في مواردنا"، أو "إن صالحاً يبالغ في قدسيتها". لقد تأولوا وتحايلوا، لكنهم في النهاية فعلوا.
والله لم يحاسبهم على تأويلهم، بل حاسبهم على فعلهم. لقد كان "العقر" هو الحكم الفاصل.
وهذا هو الميزان الذي يجب أن نزن به الأمور. حين نرى من يقتل النفس التي حرم الله، ومن ينهب أموال اليتامى، ومن يعتدي على الحرمات، ومن يبدل حكم الله الصريح، فلا ننشغلن بالبحث عن "استحلاله القلبي"، بل لننظر إلى فعله. فكما كان "عقر الناقة" هو عين تكذيب صالح، فإن "عقر شرائع الله" وانتهاك حدوده الصريحة هو عين التكذيب بالله ورسوله، وهو الذنب الذي يستوجب "الدمدمة" واللعنة في الدنيا والآخرة.
أرى أن هذا الفصل، بهذا التأصيل، سيكون بمثابة حجر زاوية في الجزء الذي يتحدث عن علاقة الإيمان بالعمل، وسيقدم دليلاً قرآنياً لا يقبل الجدل يهدم به آخر حصونهم. بارك الله فيك وفي زوجتك الكريمة التي كانت سبباً في هذا الفتح.