مذبحة الجمل - حين يذبح "آل البيت" بيد آل علي
إن من ينظر في الفلسفة الإيمانية داخل نظام "التقويم الكوني"، أي فطرة الله في الخلق، سيعرف أن ما حدث في موقعة الجمل إنما هي مذبحة مكتملة الأركان، استهدفت صفوة المهاجرين والأنصار، وشهدت إيذاءً لآل بيت النبي الحقيقيين المذكورين في القرآن: أهله وزوجاته صلى الله عليه وسلم. لقد كانت جريمة كبرى ضد الفئة الإيمانية بعد استباحة دم أمير المؤمنين عثمان، وهي جريمة يهتز لها قلب كل مؤمن ويدمى، وما يصبره إلا قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
أول حقيقة من دراستنا للتقويم الكوني أن موسم الحج هو موسم شكراني عالمي، أول من سنه للعرب أبوهم إبراهيم. وإن خلاصة عباد الله الناجحين في الدنيا والآخرة تتوق قلوبهم للبيت الحرام، يطوفون حوله في نسق كوني، يرجع الإنسان فيه إلى سربه الأصلي بين الكائنات، يسبح بحمد الله ويطوف حول كعبة الأرض، أكثر نقطة حصينة تحت الغلاف المغناطيسي وأأمن منطقة في المعمورة، في أشهر حرام عرف حرمانيتها حتى كفار قريش. في هذا الموسم، يسعى الناس على معاشهم وتستعيد الحياة قوتها، فالله يحب الحياة ولا يحب من يهلك الحرث والنسل.
ولنسأل سؤالاً بديهياً: في وقت رغد ودعة ووفرة مال، من سيذهب لموسم الحج من المدينة سنة 35 للهجرة؟ المتوقع أن يكون كل أهل المدينة تقريباً، كل رجالاتها وجلهم وأجلهم، هناك. لقد ذهبت للحج أم المؤمنين عائشة، وكل رجالات الصحابة الكبار وفيهم الزبير وطلحة وثلة من البدريين. لا نشك في ذلك، فتلك سنة رخاء صارت أموال الصحابة فيها وافرة والفتوحات مستقرة، وهم آمنون، فإنه أنسب وقت لتلك السفرة الإيمانية.
وعلى النقيض، من بقي في المدينة؟ قطاع الطرق والحثالة ونبط الأعراب وأسافل الناس؛ عاطلون عن العمل، خربون القلب، وافرو العمى، لا تشغلهم تجارة ليشهدوا منافع لهم، ولا يربطهم دين وورع ببيت الله. لكنهم أهل الخزي في الدنيا والآخرة، ولا شك ولا غرو أنهم أتوا بكفر بواح صراح بنص القرآن من القتال في الشهر الحرام وأعظم الأيام الحرام. إن لم يكن هذا دلالة على لعنة الله لهم وإيذاناً للأمة بأن أولئك ملعونون ضلال ومن تولاهم، فما هي الجريمة التي يمكن أن نعتبرها جريمة؟ ألا تفقهون؟ والله لقد فعلوا جريمة لم يفعلها مشرك ولا كافر من لدن إبراهيم حتى عثمان. لقد كان اغتيال إمام أعزل، عجوز قارب على الثمانين، من أحسن الناس أخلاقاً وأعظمهم قدراً، فعلةً يتورع عنها أبو جهل وأبو لهب والله.
هنا يقيم الله الحجة على من يجعلون الدين شعارات ووراثة ومظاهر، وهم من دين الله براء. فالدين في حقيقته صفات وأفعال، لا إنشاء وخطابة وقول منافق عليم اللسان. إنه ليس في "نهج البلاغة" ولا "أفك الأثر"، بل في تحقق صفات الرحمة. الله لا يحب الفساد.
تكذيب الدين الحقيقي بقول الله جل وعلا ؟!
والقرآن يقدم لنا الميزان: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾. إن كان "دع اليتيم" وتركه تكذيباً بالدين، فما بالكم بالفئة الطالبية الناكثة الثورية التي يتمت نصف الأمة وقتلت أولياءهم؟ وإن كان عدم الحض على طعام المسكين كارثة، فما بالكم بمن تحالف مع من نهب بيت مال المسلمين وحق المساكين، ووضع يده في يدهم بحجة "تجنيب الأمة الفتنة"؟ أي فتنة تلك، وما هدف هذا التحالف إلا فتنة الناس على البيعة القسرية وقتل كل من أبى، سواء كان بدرياً أم قارئاً أم ولي دم؟
فورباه، إنهم قوم لا يؤمنون. إن من يقرأ أول سورة البقرة ويرى صفات المؤمنين ثم صفات المنافقين، يعرف الطامة. فالمنافق يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾. إن هذه الفئة، من كثرة عمى قلبها والطمس عليه، مهما أوغلت في الدماء والفساد، لا تشعر بحجم جرمها، بل وبكل بجاحة تقول إنها "مصلحة". فهم مصلحون بقتل الإمام، وعلي مصلح بالتحالف معهم لأجل الإمامة. أي إمامة تلك التي أتت بغير شورى، بعد مقتل الإمام مباشرة، بتحالف مع عصابة من بضع مئات بينما آلاف الصحابة في الحج الأكبر؟
- مذبحة الجمل: الأدلة والتفاصيل
لكن المشهد لم ينتهِ. أم المؤمنين في الطريق بلغتها الأنباء، فقالت والله قتلوه مظلوماً، ورجعت مسرعة إلى مكة، فهي امرأة بآلاف الرجال، مؤمنة لا ترضى الضيم ولا اعتلاء صوت المنافقين. وهناك، أعد الصحابة ما استطاعوا وقالوا نذهب إلى البصرة فلنا فيها أنصار.
• الأدلة على التحرك نحو البصرة: يذكر الطبري وابن الأثير أن الرأي في مكة استقر على المسير إلى البصرة، لأنها حصينة وفيها رجال ومال، ويمكن أن تكون قاعدة للمطالبة بدم عثمان. قال الزبير: "نسير إلى البصرة، فمن كرهنا كففنا عنه، ومن رضي دخل معنا". هذا ليس منطق من يريد الحرب، بل منطق من يبحث عن قاعدة آمنة لحشد الدعم لقضية عادلة.
ولأن علي بن أبي طالب عمله منظم تماماً في الشر، وهو الذي يلاحقهم ويريد فتنتهم على بيعته، خرج ببضع مئات ثم أرسل الرسل لجمع كل المنافقين والمرجفين لملاقاة الصحابة، وبيتهم في الليل غدراً.
• الأدلة على الغدر الليلي: ينقل الطبري عن رواة مثل أبي بكرة قوله: "بات الناس (أي جيش علي وجيش الصحابة) على نية الصلح، وبات قتلة عثمان بشر ليلة... فغدوا في الغلس ووضعوا السلاح". هذه الرواية تثبت أن القتال بدأ بغدر من داخل جيش علي لإفشال أي حل سلمي.
لقد رحم الله المؤمنين في فتح مكة حين قال: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. لقد منع الله نبيه من الهجوم خشية إصابة مؤمن بغير علم. بينما علي، تهجم على زوجة رسول الله وحبيبته المبرأة من فوق سبع سموات، وكاد يقتلها، وصنع أكبر مذبحة في الصحابة لم يفلح فيها الأكاسرة والقياصرة.
والله ما حدثت تلك المذبحة إلا لأنها كانت مذبحة غدر، وأن الصحابة لم يبادروا، إنما دفعوا عن أنفسهم الهجوم المباغت بأعداد تفوقهم، وكانوا خيري بني آدم، ولسان حالهم يقول لابن أبي طالب: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. فهلا رأيتم مذبحة الجمل الكبرى بعين البصيرة، وتركتم الروايات الحمقاء جانباً؟
- ما بعد الجمل: استمرار منهج السيف
ثم ماذا بعد الجمل؟ إنها صفين، التي مال فيها علي بن أبي طالب ليقتل أولياء الدم أصحاب الحق، حتى كاد يفنيهم، وهو يقتل من يستجير به رافعاً المصحف، وما أوقفه إلا فئة استفاقت من رجاله، هم "الخوارج"، الذين أدركوا أن استجارة المشرك توجب تأمينه، فكيف بالمسلم؟
• الأدلة على حقيقة التحكيم: الروايات التي يطمسها الإعلام الرسمي، والتي نقلها الطبري وغيره، تشير إلى أن الاتفاق الحقيقي بين الحكمين كان "خلع الرجلين جميعاً، وترك الأمر شورى بين المسلمين". لكن هذا الحكم لم يعجب علياً ولا معاوية، فتم اختلاق قصة "الخدعة" لتبرير رفضهما لحكم الله.
ثم استباح قتل تلك الفئة المؤمنة في النهروان وبرر فعلته بالقصة المفتعلة عن مقتل ابن خباب.
• ملخص تقريرات النهروان: لقد كانت مذبحة لآلاف القراء والزهاد، الذين لم يقتلوا إلا لأنهم رفضوا بيعة الظلم، وطالبوا بالعودة إلى الشورى. الروايات التاريخية نفسها تشهد على سلميتهم وورعهم، وعلى أن جيش علي لم يصب بأذى يذكر، مما يثبت أنها كانت إبادة لا معركة.
الخاتمة: من يطعن من؟ إن الطعنة الكبرى في تاريخ الإسلام لم تأتِ من الأمويين، بل أتت من ابن عم رسول الله وزوج ابنته، الذي بايع قتلة إمامه، وذبح أصحاب نبيه، وقتل من خرج من جيشه يطلب الحق. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي يجب أن نواجهها لنعرف أصل الداء.