لماذا اختص الله بالحفظ الذكر وليس (القرأن أو الكتاب )
( الكتاب والقرآن والذكر) أوجه الرسالة وسر الحفظ الإلهي
في رحلتنا لفهم كلام الله، لا بد من التوقف عند الدقة المعجزة التي استخدم بها القرآن ألفاظه. فالرسالة الإلهية الخاتمة لم تُنزل وجهاً واحداً، بل تجلت في ثلاثة أوجه متكاملة، يمثل كل منها بُعداً أساسياً من أبعاد الوحي: الكتاب، والقرآن، والذكر. إن فهم هذا التفريق ليس ترفاً لغوياً، بل هو مفتاح لإدراك حكمة الله في حفظ دينه، وكيف يمكن للهدى أن يبقى صافياً عصياً على الطمس.
وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]. إن "الذكر" هنا، وهو القرآن بألفاظه المحكمة وفهمه الصحيح، قد أُنزل ليبين للناس حقيقة "ما نُزل إليهم" من قبل في التوراة والإنجيل، فقد كان بين أيديهم كتاب حُفظ نصه ولكن ضاع فهمه وهداه.
إن من يزعم أن "الذكر" في هذه الآية هو ما دونه أحبار المذاهب في كتبهم المنسوبة للسنة، فقد أخطأ الطريق، فالإجماع اللغوي والقرآني قائم على أن "الذكر" هو اسم من أسماء الإنزال الإلهي، وهذه هي أوجهه الثلاثة:
الكتاب (الصفة المكتوبة التوقيفية):
هو النص في هيئته المرسومة والمادية. ومثاله التاريخي الألواح التي حُفرت لموسى عليه السلام، وفي رسالتنا، الرسم العثماني الذي جمعه الخليفة الراشد بتوقيف إلهي على الحرف الذي أُنزل على النبي ﷺ. فالكتاب هو جسد الوحي المادي المحفوظ.
القرآن (الصفة المسموعة المتواترة):
هو الوحي في هيئته الصوتية المقروءة، بمخارج حروفه وقواعد تجويده التي لا تتغير. وهو ما نُقل إلينا بالتواتر العملي جيلاً عن جيل، في سلسلة ذهبية متصلة من أفواه القراء المتقنين إلى النبي ﷺ، وتحفظه صدور الملايين. فالقرآن هو صوت الوحي الحي المتلو.
الذكر (المعنى المفهوم المدرَك):
هو روح الوحي وجوهره، وهو قيام الفهم الصحيح والمعاني العظيمة في عقل وقلب المتلقي. إنه ليس مجرد حروف تُرى أو أصوات تُسمع، بل هو "التذكر" وإدراك مراد الله، حتى يجري معنى الآية في الوجدان كأنه رأي العين. فالذكر هو بصيرة الوحي وهداه.
لماذا اختص الله "الذكر" بالحفظ؟
إن العجيب والمُعجز في آن، أن الله جل وعلا حين تعهد بالحفظ، لم يقل "إنا نحن نزلنا القرآن وإنا له لحافظون"، بل قال بلفظ شامل ودقيق: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. وهنا تكمن الحكمة الإلهية البالغة، فمجرد حفظ النص المكتوب أو المقروء لا يكفي لضمان بقاء الهداية.
إن التاريخ مليء بنصوص حُفظت كشكل لكن ضاع معناها تماماً. وخير مثال على ذلك "حجر رشيد"؛ فقد كانت نقوشه الهيروغليفية موجودة لقرون كمجرد طلاسم صامتة، حتى تمكن العالم الفرنسي شامبليون عام 1822م من فك شفرتها بمقارنتها بنص يوناني مفهوم. ومع ذلك، يظل النطق الصحيح للغة المصرية القديمة أمراً شبه مستحيل.(1)
كذلك، فإن حفظ الصوت المقروء لا يقتضي بالضرورة فهم المعنى. فقد يردد الببغاء كلمات بشرية لا يفقهها، وقد يحفظ الأطفال أغاني بلغات أجنبية دون أن يدركوا منها شيئاً.
لذلك، فإن تعهد الله بحفظ "الذكر" هو تعهد بأقصى درجات الحفظ وأكملها. إنه ضمان إلهي بأن "المعنى" و"الهدى" سيبقيان متاحين لمن أرادهما، عصيين على الطمس الكلي، وذلك عبر آليات أودعها الله في بنية القرآن نفسه. فالقرآن "مثاني" يأتي في ثنائيات يدعم بعضها بعضاً، وآياته تضيء بعضها، مما يجعل تحريف معنى في موضع يصطدم بمحكمات في مواضع أخرى. كما أن قوة تصويره البياني تجعل معانيه ترسخ في النفس بشكل أعمق من أي نص نظري.
لهذا، يجب أن تكون علاقتك بكلام الله علاقة مباشرة، علاقة صدق وعبودية، لا وسيط فيها بينك وبين ربك. فإن الله ذمّ أناساً ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 78]، ثم توعد الذين يحرفونه بأيديهم: ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79].
أما أهل الإيمان الحق، فإن القرآن في صدورهم نور وهدى، لا يحتاج إلى وصاية أحد:
﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 49].
إنها دعوة لأن نتمرس على التفكير، وأن ندرب عقولنا ونفوسنا على العبودية الحقة لله. فالعبادة ليست مجرد حركات قشرية، بل هي مسألة تبدأ من تدريب العقل على توحيد الخضوع والتلقي من كلام الله مباشرة، وأن ننخلع جميعاً عن قيود المذاهب والأحبار والرجال.
(1) إن حفظ "الكتاب" (النص المكتوب) وحده لا يضمن فهمه، ولنا في تاريخ أرضنا هذه مصر أعظم دليل. فلقد بقيت النقوش الهيروغليفية على جدران المعابد والبرديات آلاف السنين، كتاباً محفوظاً مادياً، لكنه كان طلاسم صامتة لا معنى لها. واحتاج العالم إلى "حجر رشيد" ومجهود العالم الفرنسي شامبليون عام 1822م لفك شفرة الكتابة بمقارنتها بنص يوناني معلوم مفرداته. ورغم هذا الفتح العظيم، فإن "القرآن" لتلك اللغة، أي منطوقها الصحيح، قد ضاع إلى الأبد، ولا يمكننا اليوم أن ندرك يقيناً كيف كانت تُنطق كلماتهم.
بل إن الأمر يتجاوز اللغة إلى أعظم علومهم التي كانت "ذكراً" في عقولهم. فها هي أهراماتهم الضخمة باقية، وأجسادهم المحنطة باقية، لكن سر التحنيط الدقيق، وأسرار هندسة البناء التي حيرت العقول، قد اندثرت وصارت علوماً منقرضة لا ندرك كنهها.
فسبحان من تكفل بحفظ رسالته الخاتمة حفظاً فريداً كاملاً. لم يحفظ لنا الكتاب المرسوم فحسب، بل حفظ معه القرآن المتلو بنفس النطق الذي نزل به، وفوق كل ذلك، حفظ "الذكر"، وهو المعنى الهادي والبرهان الكافي، وجعل فهمه متاحاً لمن أقبل عليه بقلب سليم، عصياً على الطمس الكلي.