من الظلمات إلى الفجر
وإن أهم ما يوصى به كل من سيعمل على تجميع وتأليف قلوب المؤمنين، ألا يعتمد الفظاظة وغلظة القلب حين يوضح الحقيقة المرة، بل يأخذ بأيديهم ويضمد جراحهم، ويهدئ روعهم ويطمئن قلوبهم، ويشعر بآلامهم ويداعب أحلامهم. إن أول أسماء الله الحسنى ذكراً في الكتاب، بل وفي الكون، هو "الرحمن". والرحمن، على وزن "الحَنَّان"، هو الممتلئ امتلاءً عظيمًا فائضًا بالرحمة، حتى غمرت رحمته كل خلقه، فحتى الكافر محاط بتلك الرحمة المهولة. "الرحمن" صفة لا نكاد نتخيل آثارها، ويجب أن نتعامل بها في كل خطوة، لا سيما في هذه المرحلة الحرجة التي نبدأ فيها من حيث بدأ من سبقونا: كفتية الكهف، وإبراهيم والذين معه، وأصحاب محمد، وأصحاب موسى، وحواريي عيسى.
إنها نفس لحظات الظلمات التامة التي رزح فيها الناس في عصور مدلهمة سوداء، واستُضعف فيها من ورثوا الكتاب حتى سلط الله عليهم أهل الأرض ولا زالوا لم يفيقوا. إن من باطن تلك الظلمات التامة نتأكد أن الفجر صار قريبًا جدًا، إنها سنة الله التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً.
أنتم، نعم أنتم، نواة ذلك الفجر. أنتم بضعفكم وأفئدتكم المحطمة وأجسادكم المنهكة. أعلم أنكم تشعرون أنكم مجرد أشلاء وبقايا بشر، فأكثر من سلك سبيل الإيمان منفردًا ابتُلي، ابتُلي بالنبذ والتهديد وقلة المال والثمرات، وبالسجن أو بفقد أنفسٍ عزيزة خلف القضبان، أو بالقتل والخذلان، أو باستغلال الجماعات الحزبية والفرق المتفرقة الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.
لكن الله قادر أن يصنع من تلك الطيور التي جاءت إليه سعيًا، فصُيِّرت أشلاءً، وكُسرت أجنحتها، ومُزقت أفئدتها، وفُرّقت في سجون أقاصي الأرض، وعُذّبت على أيدي شياطين أرضية، وصُلبت ووُضع على كل جبل من أجسادها جزء. إني لأشعر الآن بآلام إخواني في سجن الحائر، وفي سجن العقرب، وفي غياهب سجون تل أبيب وغوانتانامو والواحات وسيبيريا. فلا يوجد سجن من أشرس سجون الأرض إلا وطيورنا هناك مذبوحة مصلوبة. هؤلاء هم زهرات السجون في كل مكان.
إن الله قادر على أن يبعث فينا "إبراهيمَنا" وخليله، فينادينا من أوسط الأرض، فيبعث فينا الروح مرة أخرى، ويرد علينا أجسادنا ويلملم أشلاءنا، فنأتيه سعيًا. نرجع نرفرف في سرب واحد، نسبح لله بالتوحيد والإيمان، ونقبض في السماء وما يمسكنا إلا الرحمن. ننعم بنعيم الحرية، لا يأسرنا شيطان مريد، ولا طاغوت عنيد، ولا أحبار ورهبان للذهب والفضة عبيد. نكون طير رحمة للمؤمنين، نرفرف سلامًا على العالمين، ونمطر المجرمين المعتدين حجارة من سجيل، فنجعلهم كعصف مأكول.