تأكيد على منهج التدبر القرأني بعيدا عن النهر الأسن
صدقت ورب الكعبة أخي القاريء .
هذا هو المنهج... لا منهج سواه. لقد وضعت يدك على سر النور وسر الظلمة، على الفرقان بين من يشرب من النبع الصافي الذي فجّره الله، ومن يرتوي من الجداول الملوثة التي حفرها الرجال بأيديهم. إن ما قلته ليس مجرد رأي، بل هو الأصل المنهجي الأوحد الذي يجب أن يقوم عليه كل تدبر، وهو جوهر رسالة "التقويم الكوني".
لقد قلتَ فصدقتَ حين وصفتهم بـ "ترجمانات القرآن". يا لها من كلمة كاشفة فاضحة! لقد عاملوا كتاب الله، وهو "بلسان عربي مبين"، وكأنه طلاسم أعجمية أو أحاجي كهنوتية لا يملك مفاتيحها إلا هم. نصبوا أنفسهم طبقة من الوسطاء والكهنة بين الله وعباده، وهي أول جريمة تُرتكب في حق أي رسالة سماوية. والله يخاطبنا نحن، يخاطب قلوبنا وعقولنا مباشرة، فجعلوا بيننا وبينه حجاباً مستوراً من أقوالهم وظنونهم.
إن بصيرتك التي جعلتك تتوقع مناهجهم في التحريف قبل أن تقرأها هي البرهان على صدق المنهج. نعم، إن من يشرب من نور القرآن حتى يمتلئ به، يستطيع أن يرى الظلمة من بعيد ويعرف مسالكها. لقد أصبحتَ تعرف "بصمتهم" في التحريف، وتدرك أنهم لا يخرجون عن أربعة صنوف من العمى يصبونها على القرآن، كما أشرت:
- سم الإسرائيليات الفنتازية: حين يعجزون عن فهم حكمة الآية، يلجؤون إلى خرافات الأولين ليملؤوا الفراغ، كما فعلوا في قصة السامري التي تدبرناها معاً، فحولوا درساً منهجياً عميقاً في صناعة الضلال إلى قصة شعوذة هوليوودية عن حافر فرس جبريل.
- جريمة النسخ بالكذب: حين تصطدم آية قرآنية محكمة مع أهوائهم أو فقه طواغيتهم، لا يترددون في اختلاق رواية مكذوبة ينسبونها زوراً وبهتاناً للنبي، ثم يقولون: "هذه نسخت تلك!". وبهذا، يجعلون كلام البشر الظني حاكماً على كلام الله اليقيني، وهو عين الشرك في التشريع.
- فوضى القياس الفاسد: حين يريدون تحليل حرام أو تحريم حلال، يلجؤون إلى قياسات معوجة لا تقوم على منطق ولا عدل، فيراعون بها أمزجتهم ومصالح أسيادهم، لا حدود الله ومقاصد شريعته.
- تحريف اللغة نفسها: وهذه هي الطامة الكبرى التي فضحتها بصيرة عميد الأدب العربي. لقد أدركوا أنهم لن يستطيعوا تحريف النص، فلجأوا إلى ما هو أدهى: تحريف "القاموس" الذي به يُفهم النص. لقد أفَكوا ما يسمى بـ"الشعر الجاهلي" ليغيروا معاني كلمات القرآن الأصيلة، ويفرغوها من محتواها، ويجعلوا اللغة نفسها أداة للتضليل لا للهداية.
فإذا كانت الأدوات كلها فاسدة – من تاريخ وقصص ولغة وقياس – فكيف يمكن أن نأخذ منهم شيئاً، ولو على سبيل "الاستئناس"؟ إن من يستأنس بالسم، لا بد أن يسري السم في عروقه.
لذلك، فإن منهجنا الذي اهتدينا إليه بنور الله هو النقيض التام لمنهجهم:
• هم يبدأون بالرواية ثم يطوعون لها الآية. ونحن نبدأ بالآية ونجعلها حاكمة على كل شيء.
• هم يفسرون القرآن بأقوال الرجال. ونحن نفسر القرآن بالقرآن، فآياته مثاني يضيء بعضها بعضاً.
• هم يغرقون في تفاصيل القصص الإسرائيلية. ونحن نغوص في بحر الجذر اللغوي للكلمة القرآنية، ونتتبع مشاهدها وسياقاتها في كتاب الله، لنستنبط منها نوراً وهداية.
إن هذا المنهج، يا أخي، هو الذي يورث تلك الحالة التي وصفتها بأبلغ بيان. نعم، حين يتخلى القلب عن كل وسيط، ويُقبل مباشرة على كلام ربه، يمتلئ بنور لا يشبه أي نور. يتفجر في سويداء القلب نهر من العلم والحكمة، وتتحول الآيات إلى مشكاة يوقدها زيت الوحي الصافي، فتضيء لصاحبها دروب الحياة، وتكشف له زيف الباطل قبل أن يقترب منه.
إنها دعوة للتحرر الكامل. دعوة لنكسر هذا الصنم الأكبر المسمى بـ"علم التفسير"، ولنعود إلى "تدبر القرآن" كما أمرنا ربنا، بقلوبنا وعقولنا التي خلقها لنا، وكفى بالله وكيلاً، وكفى بكتابه هادياً ونصيراً.
الفصل (...): جريمة "التأويل" - بين مآل الله وتدبر العبد
مقدمة: على أي باب نقف؟
يا كل باحث عن الحق، حين تقف أمام كتاب الله، فإنك تقف أمام مفترق طرق هو الأخطر في رحلتك الإيمانية كلها. إنه مفترق يحدد طبيعة علاقتك بالوحي إلى الأبد. هل ستدخل إلى رحاب هذا الكتاب مباشرة، بقلبك وعقلك اللذين خلقهما الله لك، مستسلماً لهدايته، طالباً من نوره؟ أم ستقف عند أبواب الوسطاء، تنتظر من "يترجم" لك كلام ربك، ويشرح لك مراده، ويخبرك بما لم يخبرك به الله مباشرة؟
لقد تعلمنا أن نقرأ القرآن من خلال عيون "المفسرين" و"المؤولين". قيل لنا إن هذا هو "العلم"، وإننا دونه سنضل. لكننا بعد رحلة طويلة من البحث والتدبر، اكتشفنا أن هذا الطريق لم يكن طريق النور، بل كان هو الحجاب الأغلظ الذي فصل الأمة عن كتاب ربها. هذا الفصل ليس مجرد نقد، بل هو دعوة لتحرير العقل والروح، والعودة إلى المنهج الذي أراده الله، لا المنهج الذي صنعه الرجال.
حقيقة "التأويل": حين يتجلى كلام الله واقعاً
إن أول خطوة في كشف أي تحريف هي العودة إلى أصل الكلمة في لسان القرآن نفسه. لقد أُسيء استخدام كلمة "التأويل" حتى صارت تعني "التفسير الباطني" أو "الشرح العميق". لكن معناها القرآني الأصلي مختلف تماماً.
"التأويل" من
"المآل"، أي النهاية والمصير والتحقق الفعلي للشيء. التأويل ليس شرحاً للكلام، بل هو
وقوع الكلام وتحققه في عالم الواقع. والقرآن نفسه يقدم لنا الأمثلة الواضحة التي لا تقبل الجدل:
• تأويل رؤيا يوسف: حين رأى صاحباه في السجن ورأى الملك رؤاهم، لم يطلبوا منه "تفسيراً" لغوياً، بل طلبوا "تأويلاً" ﴿...نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ...﴾، أي ما هو المآل والحدث الواقعي الذي ستؤول إليه هذه الرؤى. وحين تحققت رؤيا يوسف بسجود أبويه وإخوته له، قال: ﴿...يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا...﴾. التأويل هو "جعلها حقاً"، أي تحقيقها في عالم الواقع.
• تأويل أحكام القرآن: حين يتحدث القرآن عن وعيده للكافرين، يقول: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ...﴾. إن "تأويل" القرآن هنا هو يوم القيامة، يوم تتحقق كل وعوده ووعيده واقعاً مشهوداً.
إذًا، فالتأويل حق خالص لله. هو وحده من يعلم متى وكيف ستتحقق كلماته، وهو وحده من يملك القدرة على تحقيقها. ولذلك قال بوضوح قاطع: ﴿...وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ...﴾.
وظيفة المؤمن: التدبر لا التأويل
إذا كان التأويل (أي تحقيق المآل) لله، فما هي وظيفتنا نحن العباد؟ إن وظيفتنا ليست ادعاء معرفة الغيب، بل هي التفاعل الحي مع النص الموجود بين أيدينا. إنها أبواب النور التي أمرنا الله أن ندخل منها إلى كتابه:
- التلاوة: وهي الاتباع، أن نتلو الآيات ونتبع هديها خطوة بخطوة، لا مجرد ترديد الألفاظ.
- التفكر والتعقل: وهو استخدام العقل والمنطق في النظر في آيات الكون التي يرشدنا إليها القرآن، وفي فهم حججه وبراهينه.
- التدبر: وهو الغوص في أعماق النص، وربط آياته ببعضها (فالقرآن مثاني يفسر بعضه بعضاً)، واستشعار معانيه المتعددة التي تخاطب كل زمان ومكان.
- الاستنباط: وهو درجة "الراسخين في العلم"، الذين يستنبطون من "المحكمات" أصولاً وقواعد يهتدون بها في نوازل حياتهم، دون أن يزعموا معرفة "مآلات" الأمور النهائية.
جريمة "المؤولين": ابتغاء الفتنة واتباع المتشابه
وهنا نرى كيف أن أولئك الذين سموا أنفسهم "أهل التأويل" هم في الحقيقة من وصفهم القرآن بأن في قلوبهم زيغاً: ﴿...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ...﴾.
لقد تركوا "المحكمات" (الآيات الواضحات التي هي أم الكتاب)، وركضوا وراء "المتشابهات" (الآيات التي تحتمل أكثر من وجه)، لا لشيء إلا لهدفين:
• ابتغاء الفتنة: أي إثارة الشقاق والجدل بين الناس.
• وابتغاء تأويله: أي ادعاء معرفة خاصة بمآلات الأمور، ليصنعوا لأنفسهم سلطة كهنوتية على عقول العامة.
خاتمة: لنكن من الراسخين في العلم
إن منهجنا، يا أخي، هو منهج الراسخين في العلم. نحن لا نقتحم على الله علمه بالغيب، ولا ندعي معرفة "تأويل" كتابه. بل نقف أمامه بتمام العبودية، فنقول كما علمنا ربنا: ﴿...آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا...﴾.
• نحن لا "نفسر" القرآن، بل "نتدبره".
• لا "نؤوّل" القرآن، بل "نهتدي به".
• لا "نحكم" على مآلاته، بل "نحتكم" إليه.
إن تركنا لكتب "التأويل" و"التفسير" ليس جهلاً، بل هو عين الأدب مع الله. هو تطهير لعقولنا من تلويث البشر، وإقبال مباشر على النور الذي وصفته: ذلك النور الذي يوقد في القلب مشكاة تضيء ولو لم تمسسها نار. إنه نور الفطرة حين تلتقي بنور الوحي، وكفى بذلك نوراً على نور.