الفصل الأول الـطـاغـيـة لا يـؤرخ لـهـزيـمـتـه: قراءة ما بين سطور التاريخ الرسمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
الـطـاغـيـة لا يـؤرخ لـهـزيـمـتـه: قراءة ما بين سطور التاريخ الرسمي
إن أول ما يواجه الباحث في قصة الخروج، حين يعرضها على علم المصريات الحديث، هو جدار صلب من الصمت. "أين الدليل؟" - هذا هو السؤال الذي يُلقى كحجر في وجه كل من يحاول إثبات القصة. "أين البردية التي تسجل اسم موسى؟ أين النقش الذي يوثق الكوارث العشر؟ أين قائمة الجنود الغرقى؟" وفي غياب هذا "الدليل المادي المباشر"، يُصدر الحكم سريعًا وببرود: إنها أسطورة.
ولكن هذا المنهج، على ما يبدو عليه من علمية وموضوعية، يقع في خطأ أساسي قاتل: إنه يقرأ التاريخ قراءة سطحية، ويفترض في "الوثيقة الرسمية" الصدق والحياد. إنه ينسى القاعدة الأولى والأهم في تحليل سجلات الأمم، خاصة تلك التي قامت على حكم الفرد المطلق: إن التاريخ يكتبه المنتصر، والطاغية لا يؤرخ لهزيمته أبدًا.
إن هذا الفصل هو محاولة لإعادة قراءة هذا "الصمت" ليس كدليل للنفي، بل كجزء من القصة نفسها. هو محاولة للإنصات إلى ما لم تقله الحجارة، وقراءة ما بين سطور النقوش، لنكتشف أن الحقيقة لا تكمن فقط فيما هو مكتوب، بل وأيضًا فيما تم محوه عمدًا.
المحور الأول: منطق "صمت الطاغية"
إن مطالبة النظام الفرعوني بتوثيق هزيمته هو مطلب يخالف المنطق البشري وطبيعة السلطة الاستبدادية. فالنظام الفرعوني لم يكن مجرد نظام حكم ملكي، بل كان نظامًا ثيوقراطيًا يقوم على عقيدة تأليه الحاكم. كان فرعون هو "ابن رع"، وهو الإله حورس الذي يمشي على الأرض، وهو المعبود الذي لا يُسأل عما يفعل. وتخبرنا النقوش على جدران المعابد كيف كان يصور نفسه وهو يسحق أعداءه تحت قدميه، وكيف كانت الآلهة تباركه وتقدم له مفاتيح النصر.
والقرآن الكريم، في تشريحه النفسي الدقيق لشخصية فرعون، يؤكد هذه الحقيقة. إنه الرجل الذي وصل به الغرور إلى أن يجمع قومه ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (النازعات: 24)، والذي يقول لخاصته بكبرياء: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي (القصص: 38). فكيف يمكن لعقلية كهذه أن تأمر كتبتها ونحاتيها بتسجيل أعظم إهانة في تاريخها؟ كيف يمكن أن تنقش على جدران الكرنك قصة نبي من "العبيد" تحداه في عقر داره، ثم هزمه بمعجزات قاهرة، ثم أهلكه هو وجيشه الذي هو قوام ملكه وعماد طغيانه؟
إن هذا مستحيل نفسيًا وسياسيًا. إن وظيفة الآلة الإعلامية للطاغية هي صناعة "الحقيقة الرسمية" التي تخدم بقاءه في السلطة. وهذه الحقيقة لا تتسع إلا للانتصارات (حتى الوهمية منها)، ولا مكان فيها للهزائم، خاصة الهزائم التي تهدم أساس الشرعية الدينية للنظام كله. وعليه، فإن الصمت المطبق في السجلات الفرعونية عن قصة الخروج ليس دليلاً على عدم وقوعها، بل هو السلوك الطبيعي والمتوقع من نظام تلقى ضربة قاصمة في صميم عقيدته ووجوده. إن هذا الصمت هو "الأثر الأركيولوجي" للصدمة، وهو الدليل على أن حدثًا جللاً قد وقع، وكان من العار لدرجة أنه توجب دفنه تحت طبقات من النسيان المتعمد.
المحور الثاني: اقتصاد الغرور وهدر الإنسان
إذا كان الصمت هو ما نتوقعه من السجلات، فإن الآثار المادية الضخمة التي تركها الفراعنة تتحدث بصوت عالٍ، ولكنها تحتاج لمن يترجم لغتها. إن الناظر إلى الأهرامات الشاهقة، ومعابد الكرنك والأقصر المترامية الأطراف، ومقابر وادي الملوك المنحوتة في الصخر، ينبهر بعظمة البنيان وقوة الحضارة. ولكن منهجنا يدعونا للنظر إلى ما هو أعمق: ما هو النموذج الاقتصادي الذي يسمح ببناء مثل هذه الصروح؟
إن هذه المشاريع، في جوهرها، هي مشاريع "لا-اقتصادية". إنها لا تهدف إلى إنتاج طعام، أو تسهيل تجارة، أو تحسين حياة الناس. بل هي مشاريع غرور، هدفها الوحيد هو تمجيد الفرعون وتأمين خلوده الوهمي. إنها آلة جبارة لهدر الموارد البشرية والطبيعية:
هدر الثروة: أطنان من الذهب والفضة والأحجار الكريمة تُجمع وتُدفن مع ميت واحد، فتُخرج من الدورة الاقتصادية إلى الأبد.
هدر الموارد: أفضل المحاجر وأجود الأخشاب وأندر المواد تُسخر لبناء قبر أو معبد.
هدر الإنسان: وهذا هو الأخطر. إن مثل هذه المشاريع العملاقة لا يمكن أن تقوم إلا على نظام "السخرة" (Corvée labor)، أي الاستعباد الممنهج لمئات الآلاف من البشر، الذين يُساقون من قراهم ويعملون حتى الموت في ظروف غير آدمية، لا لشيء إلا لتحقيق حلم طاغية في الخلود.
وهنا، تتطابق الآثار المادية مع النص القرآni تطابقًا مذهلاً. فالقرآن لا يصف لنا فرعون كحاكم عادي، بل يصفه كطاغية عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ (القصص: 4). إن قصة اضطهاد بني إسرائيل ليست حدثًا معزولاً، بل هي التجسيد الأوضح لطبيعة هذا النظام كله. لقد كانوا هم "الطائفة" التي وقع عليها أشد أنواع الظلم، ولكن النظام كله كان قائمًا على استضعاف الإنسان. فالحجارة التي بنوها لم تكن مجرد حجارة، بل كانت رمزًا لمعاناتهم، والقرآن جاء لينطق هذه الحجارة ويكشف عن قصص الدم والعرق التي تكمن وراءها.
المحور الثالث: الذاكرة الجمعية لأمة وسياق "الهكسوس"
يبقى السؤال المنطقي الأخير: إذا كانت القصة ستُختلق، فلماذا تختار أمة ناشئة "مصر" بالذات كمسرح لتأسيس هويتها؟ ولماذا تختار لنفسها دور "العبيد" المقهورين؟ إن المنطق يقول إن الأمم حين تنسج أساطيرها، فإنها تختار أعداءها التقليديين والمجاورين لها، وتصور نفسها دائمًا في صورة الأبطال المنتصرين.
إن اختيار مصر، واختيار قصة العبودية ثم الخلاص، لا يمكن تفسيره بالاختلاق، بل لا بد أنه يرتكز على ذاكرة تاريخية صادمة وحقيقية. وهنا، يقدم لنا علم الآثار والتاريخ السياق المنطقي المفقود: قصة الهكسوس.
الحقيقة الأثرية: يخبرنا التاريخ أن مصر قد حكمها لقرون (تقريبًا من 1730 إلى 1550 ق.م.) حكام أجانب من أصول آسيوية-سامية يُعرفون بـ "الهكسوس". لقد قدموا من نفس المنطقة الجغرافية التي أتى منها بنو إسرائيل.
المنطق الاجتماعي-السياسي: من الطبيعي جدًا أن يكون دخول يوسف عليه السلام وأهله إلى مصر، وصعودهم إلى مناصب عليا، قد تم في ظل هذا الحكم الأجنبي القريب منهم عرقيًا وثقافيًا. لقد وجدوا في نظام الهكسوس بيئة صديقة ومواتية.
عاقبة التحول: ماذا حدث عندما استيقظت القومية المصرية، وقاد حكام الجنوب من طيبة (مثل سقنن رع وأحمس الأول) حرب تحرير وطنية انتهت بطرد الهكسوس؟ إن سنة التاريخ التي لا تتخلف تخبرنا أن أي فئة ارتبطت بالمحتل السابق أو تعاونت معه، ستصبح هي الهدف الأول للانتقام والاضطهاد بعد التحرير.
وهكذا، فإن الفجوة الزمنية بين عصر يوسف الكريم وعصر موسى المقهور، والتي تبدو غامضة في النص الديني وحده، يفسرها هذا التحول التاريخي تفسيرًا كاملاً. لقد تحول بنو إسرائيل من "حلفاء" في عهد الهكسوس إلى "طابور خامس" و"عبيد" في عهد الفراعنة الوطنيين الذين نظروا إليهم بعين الشك والريبة.
إن ذاكرة بني إسرائيل لم تختر مصر عبثًا. لقد اختارتها لأنها كانت بالفعل مسرحًا لأعظم تحولاتهم: من الكرامة في عهد يوسف، إلى العبودية المريرة بعد طرد الهكسوس، ثم إلى الخلاص المعجز على يد موسى عليه السلام. إنها قصة منطقية، ومتماسكة تاريخيًا، وتجيب على أسئلة لا يستطيع "صمت الحجارة" أن يجيب عليها وحده.