الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الخاتمة
"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"
وها نحن نصل معًا، يا أخي في الله، إلى نهاية هذه الرحلة على صفحات فصل الحج، والتي نرجو أن تكون بداية رحلتك الحقيقية مع كتاب الله. لقد سافرنا عبر آياته، وتدبرنا كلماته، وحاولنا أن نزيل عن أعيننا وقلوبنا غبار القرون وركام الأقوال، لنرى نور الوحي في صفائه الأول. لم يكن هذا الكتاب غاية في ذاته، بل كان مجرد إصبع يشير إلى الشمس، ومفتاح متواضع يوضع في قفل الباب العظيم. والآن، حان دورك لتدفع الباب وتدخل إلى رحاب القرآن بنفسك.
لقد تكشّف لنا خلال هذه الرحلة طريقان لا ثالث لهما، ومنظران لا يجتمعان:
الأول هو طريق فقه الأحبار: طريق متشعب، مليء بالاختلاف الكثير والتناقض العجيب. طريقٌ أساسه الظن، وقوامه أقوال الرجال. طريقٌ حوّل الدين اليسير إلى مشقة وغلو، والشعائر الحية إلى طقوس ميتة، والعبادة التي هي "شعور" القلب إلى حركات لا روح فيها. إنه الطريق الذي نصب "الأوثان التشريعية" سادة من دون الله، وأنتج حجًا ممسوخًا، غايته إثبات الولاء للسلطة، لا إخلاص العبودية لله.
والثاني هو طريق القرآن: الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه. إنه حبل الله المتين
، والنور المبين، والفرقان الذي يفصل بين الحق والباطل. طريقٌ أساسه اليقين، وقوامه كلام رب العالمين. طريقٌ يهدي إلى اليسر والرحمة، ويُحيي المناسك والشعائر بمعانيها ومقاصدها العظمى. إنه الطريق الذي يهدم كل الأوثان، ويوحد الأمة على كلمة واحدة، ويجعل العبودية خالصة لله وحده.
إن العودة إلى هذا الطريق ليست مجرد رحلة فكرية، بل هي مشروع نهضة متكامل. تخيل معي، لو أن الأمة اعتصمت بهذا الحبل، كيف سيكون حال حجها وحالها؟
- سيعود الحج مؤتمرًا عالميًا للمنافع، تتبارى فيه عقول الأمة لتعرض أعظم إنجازاتها في العلم والصناعة شكرًا لنعمة الله.
- ستعود شعيرة "البُدْن" العظيمة، لتتحول مكة إلى أكبر منظمة عالمية للأمن الغذائي، تفيض أطنان اللحوم المباركة من وليمة الرحمن لتطعم كل جائع ومحروم في الأرض.
- ستتناغم عبادة الأمة مع ميقات ربها الكوني، فيزدهر اقتصادها وتتبارك مواسمها.
- ستصبح "صلاتنا" صلة حقيقية، و"شعائرنا" إيقاظًا للشعور، و"مناسكنا" مسالك نورانية توصلنا إلى الله.
إن هذا ليس حلمًا طوباويًا، بل هو الوعد الكامن في كتاب الله لمن أراد أن يتبعه حق الاتباع.
والآن، يا أخي الكريم، تصل الدعوة إليك مباشرة. إن هذا الكتاب لم يُكتب ليُقدَّس، بل ليُحرِّض على التفكير ويهدي إلى المصدر. فالدعوة ليست إليّ، ولا إلى أي بشر، بل هي دعوة القرآن نفسه لك:
- أقبلوا على كتاب ربكم بقلب متعطش للهدى، لا بقلب متشبع بآراء الرجال.
- تدبروا آياته بأنفسكم، فالله قد يسّره للذكر، ولم يجعله حكرًا على أحد.
- حرروا عقولكم من وثن "لا يمكن فهم القرآن إلا بالتفاسير"، فإن أعظم تفسير للقرآن هو القرآن نفسه.
- واعتصموا بهذا الحبل وحده، فكل الحبال الأخرى واهية ومتقطعة.
إنها مسؤوليتك أنت، ومسؤوليتي أنا، ومسؤولية كل مسلم ومسلمة. أن نبدأ رحلة العودة الفردية إلى الله من خلال كتابه، واثقين أن هذا القرآن، كما وعد ربه، ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.
نسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، وأن يفتح به قلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا وآذانًا صمًا. ونسأله أن يجمع شتات هذه الأمة على كتابه، وأن يهدينا جميعًا إلى صراطه المستقيم.
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.