مذبحة الجمل وافتضاح كذب الروايات
مقدمة: جريمة في زمن مقدس
إن من ينظر في الفلسفة الإيمانية داخل نظام "التقويم الكوني" - أي فطرة الله في الخلق - سيعرف أن ما حدث في موقعة الجمل لم يكن مجرد "فتنة"، بل كان مذبحة مكتملة الأركان، استهدفت صفوة المهاجرين والأنصار، وشهدت إيذاءً لآل بيت النبي الحقيقيين المذكورين في القرآن: أهله وزوجاته ﷺ. إنها جريمة يهتز لها قلب كل مؤمن، وما يصبرنا إلا قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾.
لفهم حجم هذه الكارثة، يجب أن نعود إلى أصل الزمن والمكان. إن موسم الحج، كما أسسنا، هو موسم شكراني عالمي، تتوق فيه قلوب عباد الله الصالحين إلى بيته الحرام، ليطوفوا حوله في نسق كوني مهيب، في أكثر بقعة آمنة على وجه الأرض، في أشهر حرّم الله فيها القتال، لا حباً في الطقوس، بل حباً في الحياة، لكي يأمن الناس على معاشهم، ويستعيد الحرث والنسل عافيته، فالله يكره من يهلك الحرث والنسل.
- مسرح الجريمة: عاصمة خاوية وصفوة في الحج
لنسأل السؤال البديهي: في سنة 35 للهجرة، وهي سنة رخاء ووفرة مال واستقرار للفتوحات، من هم الذين سيذهبون إلى موسم الحج الأكبر في مكة؟
المنطق وطبيعة الأشياء تقول إنهم صفوة الأمة وقادتها. التجار الكبار ليشهدوا منافع لهم، والعلماء والقراء ليتدارسوا الدين، والمجاهدون القدامى وأهل السابقة ليشكروا الله على نعمه. لقد كانت المدينة في ذلك الوقت شبه خاوية إلا من النساء والأطفال وقليل من الرجال. لقد ذهبت أم المؤمنين عائشة، ومعها كبار الصحابة كطلحة والزبير، وثلة عظيمة من البدريين والمهاجرين والأنصار وأبنائهم.
وعلى النقيض، من الذي بقي ولم يذهب؟ قطاع الطرق والحثالة ونبط الأعراب وأسافل الناس؛ العاطلون عن العمل، الفارغون من الإيمان، الذين لا تربطهم بالتجارة صلة ولا بالعبادة رغبة. هؤلاء هم "الثوار" الذين استغلوا خلو العاصمة من حُماتها، وارتكبوا جريمة لم يجرؤ عليها مشركو الجاهلية أنفسهم: القتال والإلحاد في الشهر الحرام، وفي أقدس أيامه. لقد حاصروا إماماً أعزل، شيخاً قارب الثمانين، وقتلوه غيلة، وأتوا بفعلة يتورع عنها أبو جهل وأبو لهب. وهنا يقيم الله الحجة على من يجعلون الدين شعارات ووراثة، بينما أفعالهم تكذّب ادعاءهم، فالدين هو تحقيق لصفات الرحمة والعدل، لا خطابة بليغة بلسان منافق.
- التحالف المشؤوم: حين يبايع "ابن عم النبي" قتلة الخليفة
إن أول آيات سورة البقرة تضع لنا ميزاناً أبدياً، فتصف المنافقين بأنهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾. هذه الفئة، من كثرة عمى قلبها، لا تشعر بحجم إجرامها. لقد قتلوا الإمام وقالوا "نحن مصلحون". ثم جاءت الطامة الكبرى، فتحالف معهم علي بن أبي طالب بحجة "حقن دماء المسلمين" و"الحفاظ على الإمامة". أي إمامة تلك التي تأتي بلا شورى، على يد عصابة من القتلة، بينما آلاف الصحابة في الحج الأكبر؟
لقد كذب الرواة العباسيون حين ادعوا أن "الصحابة أجمعوا". أي إجماع هذا وكبار الصحابة كـ سعد بن أبي وقاص رفضوا أن يضعوا أيديهم في يد علي بعد أن تحالف مع المجرمين؟ لقد كذبوا حتى في التواريخ، فزعموا أن عبد الرحمن بن عوف بايعه، وهم لا يعلمون أنه كان قد توفي قبل هذه الفتنة. إنها الطعنة التي أتت من القرب، حين بايع "ابن عم النبي" ثلة من الصعاليك وقطاع الطرق.
- مذبحة الجمل: الأدلة من بطون الكتب
عندما وصل خبر الجريمة والتحالف المشؤوم إلى أم المؤمنين في طريق عودتها، قالت كلمتها الشهيرة: "والله قُتل عثمان مظلوماً"، ورجعت مسرعة إلى مكة، فهي امرأة بآلاف الرجال، لا ترضى الضيم ولا اعتلاء صوت المنافقين. هناك، تجمع حولها الصحابة، وأعدوا ما استطاعوا من قوة، وقرروا التوجه إلى البصرة لأن لهم فيها أنصاراً، لتكون قاعدة للمطالبة بالحق.
لكن جيش علي، الذي أصبح جيشاً عرمرماً بعد أن أرسل الرسل لجمع كل المنافقين والمرجفين والطامعين، لم يكن يهدف للتفاهم. لقد خرج لملاحقتهم وسحقهم.
• رواية الغدر الليلي: المصادر التاريخية نفسها، حتى وهي تحاول تجميل الصورة، لم تستطع إنكار أن المعركة بدأت ليلاً بغدر. الطبري وغيره ينقلون رواية مفادها أن الجيشين كانا قد اتفقا على الصلح، لكن "السبئية" (وهو اسم حركي لقتلة عثمان) شنوا هجوماً ليلياً مباغتاً على معسكر الصحابة لإشعال الحرب ومنع أي حل سلمي. هذه الرواية، حتى لو كانت تهدف لتبرئة علي، فهي تعترف بأن المعركة بدأت بخيانة وغدر من داخل جيشه.
• جريمة ضد زوجة النبي: لقد هاجموا هودج أم المؤمنين عائشة، حبيبة رسول الله والمبرأة من فوق سبع سماوات، حتى أصبح هودجها كالقنفذ من كثرة السهام. لقد فعلوا ما لم يجرؤ عليه الكفار في كل غزواتهم، وهو إيذاء "آل بيت" النبي الحقيقيين. إن الله يقول في كتابه ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾، فكيف بمن آذى صاحبة هذه الآيات بالفعل والسيف؟
• مذبحة لا معركة: إن رواية مقتل ما يقرب من ثلاثين صحابياً بدرياً، ومئات من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، هي دليل قاطع على أنها لم تكن معركة متكافئة. والله ما حدثت هذه المذبحة إلا لأنها كانت مذبحة غدر، وأن الصحابة لم يبادروا بالقتال، بل دافعوا عن أنفسهم في مواجهة هجوم مباغت من جيش يفوقهم عدداً. لقد كانوا خيري بني آدم، ولسان حالهم يقول لعلي وجيشه: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
- من الجمل إلى صفين والنهروان: استمرار منهج السيف
لم تتوقف المأساة عند الجمل. لقد سار علي بنفس الجيش ليقاتل في صفين "أولياء الدم" أصحاب الحق في القصاص. وكاد أن يبيدهم لولا أنهم رفعوا المصاحف مستجيرين بكتاب الله، فما أوقفه إلا صحوة الضمير لدى "القراء" في جيشه الذين رفضوا قتال من يستجير بالقرآن.
• رفض حكم الله (الشورى): لقد أثبتت حادثة التحكيم أن علياً لم يكن يريد حكماً، بل كان يريد بيعة. فالروايات الأكثر منطقية تشير إلى أن الحكمين اتفقا على خلع كلا الرجلين وإعادة الأمر شورى للأمة، وهذا هو حكم الله الحق. لكن هذا لم يعجب علياً، فرفضه، وقَبِل بالرواية الساذجة التي تزعم أن عمرو بن العاص خدع أبا موسى.
• مذبحة أهل الحق (النهروان): ولما رأت تلك الفئة المستبصرة من جيشه (الخوارج) أنه رفض حكم الشورى، اعتزلوه. فما كان منه إلا أن لحق بهم وارتكب فيهم مذبحة أبشع، وبررها بالقصة الملفقة عن قتلهم لعبد الله بن خباب.
خاتمة: الطعنة التي قتلت الأمة إن التاريخ واضح لمن أراد أن يبصر. إننا أمام رجل واحد، كان دافعه الأوحد هو إخضاع الأمة لبيعته، وكان مستعداً في سبيل ذلك للتحالف مع القتلة، وقتل الصحابة البدريين، وإيذاء زوجة النبي، وقتال أولياء الدم، ثم قتل خيرة من كان في جيشه نفسه. لقد كانت الطعنة التي أتت من القرب أشد إيلاماً وفتكاً بالأمة من كل سيوف الأكاسرة والقياصرة.