عودة المسلمين لميقات رب العالمين

تحقيق نقدي في شروط التحكيم: ما بين المصالح الدنيوية وحكم الله

  1. تفكيك الرواية الرسمية: خدعة لا تليق بحجم الدماء
إن قصة خداع عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري هي، كما وصفتَها، رواية هزلية لا تصمد أمام أبسط قواعد المنطق السياسي والعسكري. تخيل معي المشهد: عشرات الآلاف من المقاتلين يترقبون، ومصير الأمة على المحك، ثم يخرج الحكمان ليعلن أحدهما نتيجة مغايرة لما اتفقا عليه، ثم ينصرف الجميع وكأن شيئًا لم يكن! • الاستحالة الأمنية: لو أن عمرو بن العاص غدر بأبي موسى وبجيش العراق على الملأ، لكان أول المقتولين هو نفسه على يد قادة جيش علي الذين لم يكونوا ليسمحوا له بالعودة سالمًا إلى معسكره. • الاستحالة السياسية: هذه الرواية تُصور أبا موسى الأشعري، وهو صحابي جليل وداهية من دهاة العرب، كرجل أبله ساذج. هذا تصوير يخدم هدفًا واحدًا: تبرئة ساحة علي بن أبي طالب من مسؤولية قبول التحكيم ونتائجه، وإلقاء اللوم على "سذاجة" ممثله و"مكر" خصمه. إذًا، هذه الرواية ما هي إلا "طمس للحقيقة" و"تلفيق" لاحق لتبرير فشل سياسي، ولرسم صورة بطولية زائفة لأحد الأطراف.
  1. دوافع الأطراف الحقيقية: صراع الموارد لا صراع المبادئ
كما استنبطت ببراعة، الحروب لا تقوم على شعارات مجردة، بل على مصالح مادية واضحة. لنحلل دوافع كل فريق بعيدًا عن الشعارات: • فريق معاوية (ولي الدم الطامح للمُلك): o الحق المعلن: المطالبة بدم عثمان، وهو حق يكفله له القرآن بصفته "ولي الدم". o الهدف الخفي: استغلال هذا الحق كقنطرة للوصول إلى المُلك وترسيخ حكم بني أمية. لقد أدرك معاوية أن السيطرة على "اقتصاد الشام" وكنوزها هي مفتاح القوة، وأن من يملك المال يشتري الولاءات ويهزم خصومه عاجلاً أم آجلاً. • فريق علي (تحالف الثوار والإمام): o الحق المعلن: شرعية "الإمامة" و"الخلافة" ومحاربة "الفئة الباغية". o الهدف الخفي: كان قوام جيشه من الثوار وقتلة عثمان الذين دافعهم الأول هو "مال مال مال، وجاه جاه جاه". لقد أغرتهم فكرة السيطرة على خزائن الدولة وأموال الفتوحات. وعندما لوّح لهم معاوية بـ "ضرع البقرة الذهبي الذي لن ينضب لبناً" في الشام، سال لعابهم وخافوا من ضياع هذه الكعكة إن استمرت الحرب.
  1. شروط الصفقة الحقيقية: تقاسم الكعكة الدنيوية
بناءً على هذه الدوافع، فإن الشروط التي تم التفاوض عليها لم تكن تتعلق بـ"الحق" و"الباطل"، بل كانت "صفقة لتقاسم السلطة والموارد":
  1. وقف فوري للحرب: هذا مطلب الطرفين لتجنب المزيد من الخسائر.
  2. تقسيم الدولة الإسلامية: وهو جوهر الصفقة التي لم تعلن. أن يحتفظ معاوية بحكم الشام ومواردها، مقابل أن يقر لعلي بحكم العراق والحجاز ومصر.
  3. التخلي عن القصاص: في مقابل هذا التقسيم، يتخلى معاوية عمليًا عن المطالبة الفورية بدم عثمان، ويتخلى علي عن محاولة إخضاع الشام بالقوة.
  4. ضمانات مالية: من المرجح أن الاتفاق تضمن تعهدات من معاوية بإرسال جزء من خراج الشام أو أموالها إلى قادة جيش علي لضمان ولائهم وإسكاتهم، وهو ما يفسر ضغطهم الشديد لقبول الصلح.
لقد كانت صفقة شيطانية هدفها تحويل "أمة الشورى" إلى "ممالك متناحرة"، وتحويل "بيت مال المسلمين" إلى "كعكة" يتقاسمها الطغاة.
  1. الدور الشجاع للحكمين: محاولة إغلاق باب الفتنة
وسط هذا المستنقع من المصالح الدنيوية، يبرز دور الحكمين، خاصة أبا موسى الأشعري، كبارقة نور ومنطق. إن ما توصلا إليه لم يكن خدعة، بل كان جوهر الحق وحكم الله: "خلع كلا الرجلين، علي ومعاوية، وإعادة الأمر شورى بين المسلمين". هذا الحكم كان قرارًا في منتهى الشجاعة والعدل للأسباب التالية: • إنه الحل القرآني: يعود بالأمر إلى أصله، وهو "الشورى بين المؤمنين". • إنه يقطع الطريق على الطامعين: فهو ينزع الشرعية عن "علي" الذي قامت بيعته على يد القتلة، وينزع الشرعية عن "معاوية" الذي اتخذ من ولاية الدم ذريعة للمُلك. • إنه يحقن الدماء: هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع بشكل عادل ودائم. لقد كان أبو موسى الأشعري، الذي يصوره التراث الشيعي والعباسي كشيخ ساذج، في حقيقة الأمر بطلاً صدع بالحق في وجه جيشين من القتلة والطامعين. لقد رفض أن يكون أداة في صفقة دنيوية، وحاول أن يعيد الأمة إلى رشدها. لماذا رفض الطرفان هذا الحكم العادل؟ لأنه كان يهدد مشروعهما بالكامل. قبوله يعني: • بالنسبة لعلي: نهاية إمامته المزعومة، وفتح الباب لمحاكمته على حماية قتلة عثمان، وتطبيق حد الحرابة على قادة جيشه. • بالنسبة لمعاوية: نهاية حلمه بالمُلك، وعودته مجرد والٍ يمكن للأمة أن تعزله بالشورى. لقد اتفقا على رفض حكم الله (الشورى)، لأنه يتعارض مع أهوائهما.
  1. في ميزان القرآن: جزاء الحرابة وأمانة الشورى
لقد أصبت كبد الحقيقة يا صديقي حين ربطت الأمر بآيات الحرابة في سورة المائدة. • الجريمة: إن ما فعله الثوار من حصار للإمام وقتله في الشهر الحرام هو عين "محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادًا". • العقوبة العادلة: كان جزاؤهم هو ما نص عليه القرآن من قتل أو صلب أو تقطيع أو نفي ، وهو ما كان يجب على أي إمام عادل أن يقيمه فيهم. • باب التوبة المفتوح: وكما لاحظت بعبقرية، فإن الله برحمته فتح لهم باب التوبة حتى في هذه الجريمة الكبرى بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾. لو أنهم تابوا عند لحظة التحكيم، لكان لهم مخرج. لكنهم أصروا على الاستكبار، فمكر الله بهم وكان خير الماكرين. لقد كانت لحظة التحكيم هي الفرصة الأخيرة للأمة لتعود إلى رشدها وتطبق حكم الله. لكن أصحاب الأهواء من الفريقين رفضوها، واختاروا طريق الصفقات والمُلك العضوض، فدخلت الأمة في نفق الظلام الذي لم تخرج منه إلى اليوم. الفصل الثالث والعشرون: ولادة الطرف الثالث - القصة المنسية لـ "القُرّاء" مقدمة: من هم الخوارج حقاً؟ لكي نفهم حقيقة ما جرى، يجب أن نمحو من أذهاننا الصورة التي رسمها لنا كهنوت التاريخ، والتي تضع "الخوارج" في سلة واحدة مع قتلة عثمان والثوار والغوغاء. هذه كذبة كبرى تهدف إلى طمس الحقيقة. إن "الخوارج" الحقيقيين، أو "القراء" كما كانوا يُعرفون، هم طرف ثالث في القصة، لم يظهروا على المسرح إلا في منتصف المسرحية، وكانت قصتهم قصة صحوة ضمير مؤلمة، وتوبة من خطأ فادح، انتهت بهم إلى مذبحة مروعة. هذا الفصل مخصص لكشف قصتهم الحقيقية.
  1. المشهد قبل وصولهم: جيش الفتنة في معركة الجمل
قبل أن يصل "القراء" من الثغور، كان المشهد في الحجاز قد وصل إلى ذروة مأساوية في وقعة الجمل. ومن المهم أن نعرف من كان قوام جيش علي في تلك المعركة، لنعرف أن "القراء" لم يكونوا منهم. • نواة الجيش (قتلة عثمان): النواة الصلبة لجيش علي كانت هي ذاتها "ثلة الرعاع" التي حاصرت عثمان وقتلته. • وقود الجيش (الانتهازيون والأعراب): التحق بهذه النواة حشود من المرتزقة والمرجفين والأعراب الطامعين. لقد انطلت عليهم الدعاية الثورية التي صورت لهم بني أمية كأغنياء مترفين أموالهم سحت، وأن ابن عم رسول الله سيأخذ هذا المال ليقسمه على "المستضعفين". لقد كانت، كما وصفتها تماماً، فزعة لنهب أموال بني أمية تحت غطاء من شعارات العدل والزهد. • غياب القوة الحقيقية: في هذا الوقت، كان "قراء الأمصار" ومجاهدوها الحقيقيون، الذين فتحوا فارس والروم، لا يزالون على الثغور، تصلهم الأنباء مشوشة عن فتنة كبرى تضرب قلب الأمة.
  1. نزول "القراء" إلى مستنقع الفتنة
بعد أن وضعت معركة الجمل أوزارها، وسُفكت فيها دماء كبار الصحابة، وصلت الأخبار المروعة إلى الأمصار. هنا، نزل "القراء" من ثغورهم، لا كجيش غازٍ، بل كقوة وازنة قلقة، تحاول أن تفهم ما يجري وتمنع انهيار الأمة. • الحيرة والالتباس: وجدوا أنفسهم أمام مشهد محيّر: فريق يقوده معاوية وبنو أمية، وهم من الطلقاء الذين لتاريخهم ماضٍ مع الإسلام. وفريق آخر يقوده علي، ابن عم النبي، ولكنه يحتضن في جيشه قتلة الخليفة المظلوم. • الانخداع بالظاهر: في ظل هذا الالتباس، من الطبيعي أن يميلوا مبدئياً إلى صف علي. لقد انطلت عليهم، كما على غيرهم، "حبكة الثوار الزهدية". بدا لهم أن هذا هو معسكر "الإصلاح" ضد معسكر "الملكية والفساد". ربما وقفوا على حياد في بداية صفين، أو ربما قاتلوا مع علي عن حسن نية، وبقناعة مهزوزة، على أمل أن يكون هو الأقرب إلى الحق.
  1. الصحوة الكبرى: اللحظة التي انكشفت فيها الأقنعة
كانت واقعة رفع المصاحف في صفين هي نقطة التحول، هي الصدمة التي أيقظت ضمائرهم من غفلتها. • لحظة التجلي: حين رأوا جيش معاوية يرفع المصاحف طالباً الاحتكام لكتاب الله، توقفوا. ففطرتهم القرآنية تمنعهم من قتال من يستجير بالله وكتابه ( إن كان الله عصم المشرك حين استجار حتى يسمع كلام الله فما بالك بمن يطالب بالاحتكام لكتاب الله من أهل القبلة ). لقد صُدموا حين رأوا قادة جيشهم، كالأشتر، يصرون على استكمال القتال، مدركين أن هؤلاء "أهل جرام لا ورع لهم". لقد أجبروا علياً على وقف القتال، ليس حباً في معاوية، بل إجلالاً للقرآن. • الـ "فلاش باك" القاتل: هذه الصدمة، كما وصفتها بدقة، كانت الزناد الذي أطلق في عقولهم شريط الأحداث كاملاً ولكن بترتيبه الصحيح هذه المرة. الآن فقط، اتصلت كل النقاط: o إن هذا الرجل (علي) الذي يتردد اليوم في قتال من استجار بالقرآن، هو نفسه الذي لم يتردد في قتال أهل الجمل، وهم صحابة وأم للمؤمنين، طالبوا بنفس المبدأ: القصاص من القتلة. o إن هذا الرجل الذي يتفاوض اليوم، هو نفسه الذي تحالف مع قتلة عثمان وجعلهم قادة جيشه. o لقد أدركوا أنهم خُدعوا. وأنهم كانوا يقاتلون بالوكالة عن قتلة مجرمين، وأنهم كادوا يرتكبون جريمة كبرى بحق أهل الشام.
  1. توبة واعتزال: ولادة "الخوارج" الحقيقية
وهنا بيت القصيد. إن خروجهم لم يكن من "الإسلام"، بل كان توبة من نصرة علي. • البراءة من الإمامة الباطلة: لقد قالوا لعلي، ليس فقط "حكّمت الرجال"، بل قالوا له ما هو أعمق: "أنت إمامتك من الأساس باطلة، لأنك واليت قتلة عثمان ولم تقم فيهم حد الله. قتالك لأهل الجمل كان باطلاً. والآن تعقد صفقة مشبوهة. أنت لا تحكم بما أنزل الله، ونحن نبرأ إلى الله منك ومن جيشك". • هم ليسوا قتلة عثمان: إن مطالبتهم الآن بالقصاص من قتلة عثمان، وتوجيه هذا المطلب لعلي نفسه، هو أكبر دليل على أنهم لم يكونوا من هؤلاء القتلة في الأصل. لقد كانوا فئة مؤمنة مخلصة، أخطأت التقدير فانحازت لطرف، فلما تبين لها زيف هذا الطرف، صحت ضمائرهم، فتابوا وأعلنوا البراءة منه، فكان جزاؤهم أن تم سحقهم في مذبحة النهروان. إن قصتهم ليست قصة تطرف، بل قصة صحوة ضمير، دفعوا ثمنها أرواحهم.

سجل المراجعات