عودة المسلمين لميقات رب العالمين

جريمة "التأويل" - بين مآل الله وتدبر العبد

مقدمة: من نحن أمام كلام الله؟
قبل أن نخوض في أي حكم أو شريعة، يجب أن نحدد موقعنا الصحيح من كلام الله. هل نحن أوصياء عليه نفسره؟ أم مترجمون له نؤوله؟ أم عباد له نتلوه ونتدبره ونهتدي به؟ إن الخلط في هذه الوظيفة هو الذي فتح الباب لكل ضلال، وهو الذي أنشأ تلك الطبقة الكهنوتية من "المفسرين" و"المؤولين" الذين نصبوا أنفسهم وسطاء بين الله وخلقه.

  1. حقيقة "التأويل": حين يتجلى كلام الله واقعاً

لقد أصبت كبد الحقيقة حين أرجعت الكلمة إلى أصلها. "التأويل" من "المآل"، أي النهاية والمصير والتحقق الفعلي. التأويل ليس شرحاً للكلام، بل هو وقوع الكلام وتحققه في عالم الواقع. القرآن نفسه يقدم لنا الأمثلة الواضحة التي لا تقبل الجدل:
• تأويل رؤيا يوسف: حين رأى صاحباه في السجن ورأى الملك رؤاهم، لم يطلبوا منه "تفسيراً" لغوياً، بل طلبوا "تأويلاً"، أي ما هو المآل والحدث الواقعي الذي ستؤول إليه هذه الرؤى. وحين سجد له أبواه وإخوته، قال: ﴿...يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا...﴾ [يوسف: 100]. التأويل هو "جعلها حقاً"، أي تحقيقها واقعاً.
• تأويل أحكام القرآن: حين يتحدث القرآن عن وعيده للكافرين، يقول: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ...﴾ [الأعراف: 53]. إن "تأويل" القرآن هنا هو يوم القيامة، يوم تتحقق كل وعوده ووعيده واقعاً مشهوداً.
إذًا، فالتأويل حق خالص لله. هو وحده من يعلم متى وكيف ستتحقق كلماته، وهو وحده من يملك القدرة على تحقيقها. ولذلك قال بوضوح قاطع: ﴿...وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ...﴾.
  1. وظيفة المؤمن: التدبر لا التأويل

إذا كان التأويل لله، فما هي وظيفتنا نحن العباد؟ لقد لخصتها أنت ببراعة. وظيفتنا ليست ادعاء معرفة الغيب، بل هي التفاعل الحي مع النص الموجود بين أيدينا. إنها أبواب النور الخمسة:
  1. التلاوة: وهي الاتباع، أن نتلو الآيات ونتبع هديها خطوة بخطوة.
  2. التفكر: وهو استخدام العقل في النظر في آيات الكون التي يرشدنا إليها القرآن.
  3. التعقل: وهو استخدام المنطق في فهم حجج القرآن وبراهينه.
  4. التدبر: وهو الغوص في أعماق النص، وربط آياته ببعضها، واستشعار معانيه المتعددة التي تخاطب كل زمان ومكان.
  5. الاستنباط: وهو درجة "الراسخين في العلم"، الذين يستنبطون من "المحكمات" أصولاً وقواعد يهتدون بها في نوازلهم، دون أن يزعموا معرفة "مآلات" الأمور.
  6. جريمة "المؤولين": ابتغاء الفتنة واتباع المتشابه

وهنا نرى كيف أن أولئك الذين سموا أنفسهم "أهل التأويل" هم في الحقيقة من وصفهم القرآن بأن في قلوبهم زيغاً: ﴿...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ...﴾. لقد تركوا "المحكمات" الواضحات، وركضوا وراء "المتشابهات"، لا لشيء إلا لهدفين:
• ابتغاء الفتنة: أي إثارة الشقاق والجدل بين الناس.
• وابتغاء تأويله: أي ادعاء معرفة خاصة بمآلات الأمور، ليصنعوا لأنفسهم سلطة كهنوتية على عقول العامة.
خاتمة: لنكن من الراسخين في العلم
إن منهجنا، يا أخي، هو منهج الراسخين في العلم. نحن لا نقتحم على الله علمه بالغيب، ولا ندعي معرفة "تأويل" كتابه. بل نقف أمامه بتمام العبودية، فنقول كما علمنا ربنا: ﴿...آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا...﴾. نحن لا "نفسر" القرآن، بل "نتدبره". لا "نؤوّل" القرآن، بل "نهتدي به". لا "نحكم" على مآلاته، بل "نحتكم" إليه.
إن تركنا لكتب "التأويل" و"التفسير" ليس جهلاً، بل هو عين الأدب مع الله. هو تطهير لعقولنا من تلويث البشر، وإقبال مباشر على النور الذي وصفته: ذلك النور الذي يوقد في القلب مشكاة تضيء ولو لم تمسسها نار. إنه نور الفطرة حين تلتقي بنور الوحي، وكفى بذلك نوراً على نور.

سجل المراجعات