الفصل السابع قصة الحج الحي: حينما تتنفس الأحكام روحًا
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل السابع
قصة الحج الحي: حينما تتنفس الأحكام روحًا
يا أخي في الله، لقد سئمت الأمة كما سئمت أنا من كتب الفقه التي تشبه كتب القانون الجافة. كتبٌ تقسم الدين إلى أبواب وفصول، وتُعرِّف الواجب والمستحب والمكروه، لكنها لا تريك أبدًا كيف يعيش الإنسان هذا الدين، وكيف تتنزل هذه الأحكام رحمةً وحكمةً في دروب الحياة. إن فهم القرآن ليس بحفظ أحكامه، بل بتطبيقها، ورؤية كيف تُحيي هذه الأحكام الفرد والمجتمع.
لذلك، في هذا الفصل الأخير، لن نكتب أحكامًا جامدة. بل سنقص عليك قصة. قصة "الحج الحي" كما أراده الله، لا كما حنّطه الفقهاء. سنروي قصة القوافل القادمة من كل فج عميق، قصة الإنسان في رحلته إلى ربه، وكيف تتجلى أحكام الله يسرًا ورحمة في كل خطوة من خطواته. سنروي القصة قديمًا كما كان يجب أن تكون، ونتصورها اليوم كما يجب أن تصير، لنرى بأعيننا ماذا خسرنا، وماذا يمكن أن نستعيد.
المشهد الأول: الموسم - قوافل الشكر والمنافع
تبدأ القصة قبل أشهر من "الأيام المعلومات". في سهول مصر الخصبة، يستعد الفلاحون لقوافلهم، لا يحملون فقط زادهم، بل يحملون معهم أفضل ما أنتجت أراضيهم من قمح وقطن، ويقودون أمامهم أضخم ما سمنت مواشيهم من أبقار وجاموس، تلك هي "البُدْن" التي نذروها لوليمة الرحمن. ومن أقصى العراق والشام، تنطلق "العير" محملة بالصوف والتمور والزجاج، جمالها وبغالها تسير في ركب مهيب. ومن سواحل اليمن وعمان، تأتي السفن محملة بالبخور والبهارات، لتلتقي بقوافل الهند والسند التي عبرت البحار حاملة الحرير والسيوف. ومن قلب إفريقيا والمغرب وتونس، تأتي قوافل الذهب والجلود. ومن سهول الأناضول والبلقان، قوافل السجاد والنحاس.
كل قافلة هي وفد حضاري، وكل سلعة هي آية على نعمة الله على أهل تلك البلاد. وقبل أن تبدأ مناسك الروح، يبدأ مؤتمر المنافع. في رحاب مكة، التي هي للجميع ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾، تُنصب الأسواق وتُعقد الصفقات. يتبادل المصري خبرته في الزراعة مع العراقي، ويأخذ المغربي تقنية صناعة النسيج من التركي، ويشتري الهندي التمور من الحجازي. إنه أكبر سوق عالمي، وأعظم مؤتمر اقتصادي، يتم فيه تبادل الثروات والخبرات، فتغتني الأمم الفقيرة وتزداد الأمم الغنية قوة وتواضعًا.
في هذا الزحام المهيب، تتجلى رحمة الله. فهذا "علي" التاجر الشامي، وصل مبكرًا في شهر ذي القعدة، فأدى عمرته وتحلل من إحرامه، وعاش "متمتعًا" بهذه الرخصة، يبيع ويشتري في الأسواق، شاكرًا لله على هذا التيسير الذي سيقدم من أجله "هديًا" ميسرًا. وعلى أطراف مكة، نرى "فاطمة" وعائلتها من المغرب، وقد أصاب جملهم الذي هو وسيلة نقلهم وبَدَنَتُهم التي نذروها، مرض أقعده عن السير. لقد "أُحصروا". فبقلب خاشع، يطبقون حكم الله، فيذبحون هديهم حيثما حُصروا، ويتحللون من إحرامهم، ويعودون إلى بلادهم بقلوب راضية بقضاء الله، عالمين أن لهم أجر النية. إنها أحكام حية تتنزل على أناس حقيقيين، فتحل مشاكلهم بيسر ورحمة.
المشهد الثاني: المنسك - اتساق من الذرة إلى المجرة
حين تدخل "الأيام المعلومات"، تهدأ الأسواق، وتتجه القلوب إلى وجهة واحدة. تفيض الملايين من كل الأعراق والألوان من رحاب البيت إلى صعيد عرفات. لا فرق بين غني وفقير، ولا أمير وحقير. الكل بدون بهرج و ذهب مقنطر كلهم سواسية ، والكل يقف في مكان واحد. إنه مشهد يوم الحشر المصغر. وفي "يوم الحج الأكبر"، يرتفع الأذان الذي طال انتظاره: ﴿...أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ...﴾. إنه إعلان البراءة من كل طاغوت، وتجديد للولاء لله وحده.
.ثم تفيض الجموع إلى المشعر الحرام، ملايين الحناجر تذكر الله شكرًا على هدايته. وبعدها يتحركون إلى البيت الحرام، وأول ما يستقبلون المشعر الحرام وهو المكان الذي تتحرك فيه مشاعر المسلمين شوقًا ووجلًا، فيذكرون الله ذكرًا كثيرًا. ثم حين دخولهم للحرم، يقضوا تفثهم من غبار السفر، ويحلقوا رؤوسهم، ويتهيئوا بأفضل الحلل والألبسة احتفالًا بخاتمة نسك الحج.
فهنا تبدأ خاتمة الحج ومسك ختامه. تُقام "البُدْن" العظيمة "صوافًّا" في مشهد مهيب. يذكر الحاج اسم الله على بدنته التي عاشت معه رحلته، ثم تُنحر، فتسقط على جنبها ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا...﴾. ثم يأتي الأمر الإلهي العظيم: ﴿...فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾. تُقام الولائم الكبرى، ويجلس صاحب البَدَنة بجانب الفقير الذي لا يملك شيئًا، يأكلان من نفس اللحم، ويشربان من نفس المرق. إنه مشهد تطهير من الشح، وإغناء للفقير، وشكر عملي للنعمة.
ثم يطوفون بالبيت العتيق، ويدورون كما تدور الكواكب والنجوم والمجرات، من اليمين إلى اليسار، في اتساق كوني عجيب، من الذرة إلى المجرة، الكل يسجد ويسبح لخالق واحد. ويسعون ويتفكرون.. في كل خطوة يشعرون بمعنى الشعيرة، فـ"الشعائر" توقظ فيهم "الشعور". يشعرون بعظمة القلائد التي على أعناق البُدْن، فيعظمون الله الذي سخرها، لا القلادة نفسها.
المشهد الثالث: الحج اليوم - يوتيوب القرن الواحد والعشرين
والآن، تخيل معي هذه القصة في عصرنا. الحج هو نفسه في روحه، ولكنه يستخدم أدوات عصره. "مؤتمر المنافع" أصبح أكبر معرض "إكسبو" للتقنية والابتكار في العالم. جناح لماليزيا يعرض أحدث رقائق الذكاء الاصطناعي، وجناح لمصر يعرض تقنيات زراعية حديثة، وجناح لنيجيريا يعرض اكتشافات طبية. تُعقد المؤتمرات العلمية عبر الفيديو كونفرانس مع أكبر علماء المسلمين في كل المجالات.
وشعيرة "البُدْن" لا تزال تقام "صوافًّا" في مشهد مهيب يُبث للعالم كله، ولكن بجانب المذبح، تقف أساطيل من الشاحنات المبردة، وتعمل أنفاق التجميد ومصانع التغليف على مدار الساعة. فبعد أن يأكل الحجيج ويشبع أهل الحرم، تنطلق قوافل الخير، سفنًا وطائرات، محملة بملايين الأطنان من اللحوم المجمدة المختومة بختم "مكة المكرمة"، لتصل إلى ضحايا المجاعات في الصومال، والفقراء في صعيد مصر، والمحتاجين في كل مكان. لقد أصبح الحج أكبر منظمة عالمية للأمن الغذائي.
وفي ختام المناسك، يقام "منتدى ذكر النعم"، الذي يبثه "يوتيوب" للعالم. تقف وفود الدول لا لتذكر مفاخر الآباء، بل لتذكر نعم الله: "نحمد الله الذي وفقنا هذا العام لإطلاق قمر صناعي للاتصالات". "نشكر الله الذي أعاننا على بناء محطة للطاقة الشمسية ستوفر الكهرباء لمليون بيت". إنه كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا
، ولكنه ذكر ينسب الفضل لله، ويشعل التنافس في الخير.
الخاتمة: بين عبادتين.. عبادة النعمة وعبادة المنعم
يا أخي، إن قصة الحج الحي تعلمنا الدرس الأخير. لقد رأى الهندوس عظمة نعمة البقر والقلائد، فغلوا فيها وعبدوها من دون الله. ورأى فقهاء الأحبار هذا الغلو، فخافوا منه، وبدلًا من أن يعالجوه بالتوحيد، قاموا بقتل الشعيرة كلها وإلغائها، فعبدوا أهواءهم والطاغوت من حيث لا يشعرون.
وكلاهما ضال.
إن دين الله ليس في عبادة النعمة، وليس في جحدان النعمة، بل في شكران النعمة للاستدلال بها على عظمة المُنعم. إننا نعظم "القلائد" لا لذاتها، بل لأنها من "شعائر الله". ونعظم "البُدْن" لا لذاتها، بل لأنها رزق من الله، ووسيلة لذكر الله، وطعام لإطعام خلق الله.
إنها قصة العبودية الحقة: أن نرى الله في كل شيء، ونشكره بكل شيء، ونستخدم كل نعمه لغاية واحدة: إقامة دينه، ونفع عباده. هذه هي قصة الحج الحي الذي ندعو الأمة للعودة إليه.